الثورة الفلكية «الكوبيرنيكية».. كيف غيّرت الفلسفة؟

يعتقد الكثير من الناس أن الثورة الفلكية الكوبيرنيكية "نسبة إلى العالم الفلكي البولوني نيكولاس كوبيرنيكوس. 1473/1543"، مجرد قلب تقني للأرض بالشمس وجعل الأولى تدور والثانية ثابتة، لكن المسألة في جوهرها أعمق بكثير من ﺫلك، إنها انقلاب سيتجاوز حقل الفلك ليصيب باقي المجالات الأخرى، بحيث ستكون هده الثورة بمنزلة الشرارة التي ستهدم تصورا لينجز آخر، بمنزلة خلفية نظرية معتمة وفرشة ذهنية جديدة، ممهدة لقلب منهجي هائل يسمى الحداثة، قوامه الذات أولا والموضوع "العالم الخارجي" ثانيا. فكيف تم ذلك؟ لفهم تداعيات الكوبيرنيكية المنهجية نحتاج إلى عودة تاريخية نتبع فيها مسار المشكل الفلكي ولو بعجالة تحكمها حدود المقالة.

أ‌- الفلك ما قبل كوبيرنيك:
لقد كان الفلك قبل كوبيرنيكوس يسير في درب النموذج الأرسطي ـــ البطليمي بما فيه الفلك العربي/ الإسلامي، هذا النموذج يمكن تحديد مسلماته في أربعة عناصر: أولا: العالم برمته كرة محدودة، ثانيا الأرض مركز تلك الكرة، ثالثا دوران الكواكب في السماء يجب أن يكون دائريا، رابعا ھﺬا العالم قسمان: عالم علوي به الكمال والثبات والآخر سفلي به الكون والفساد يفصلهما القمر. ولفهم هذه المسلمات الموجهة للفلك القديم لا بد من الرجوع لصلب المشكل الفلكي الذي صاغه وأعلنه الفيلسوف أفلاطون "ت 347 ق.م"، فلقد كان من المعروف عند الفلكيين ومند العصور القديمة أن هناك اضطرابات تحصل في حركات الكواكب السيارة "الزهرة، المريخ، المشتري، زحل، عطارد". فأثناء دورانها في السماء تأتي عليها لحظات تتوقف فيها لتعود القهقري في حركة تراجعية ثم تستأنف مسيرها من جديد كأنها تائهة وحائرة من أمرها. هذا من جهة ومن جهة أخرى، كانت تبدو هذه الكواكب مضيئة تارة مما يعني أنها قريبة وتارة أخرى خافتة مما يعني أنها بعيدة. هذه الظواهر وغيرها لم يكن علماء الفلك الإغريق ليقبلوها، لأنهم كانوا يعتبرون أن الأجرام السماوية إلهية ومقدسة ولا بد من أن تكون حركاتها دائرية باعتبار الدائرة أكمل شكل هندسي فهي بلا بداية ولا نهاية، "فكل ما هو سماوي فهو إلهي". فالسماء هي مجال الكمال والثبات لا الكون والفساد. هذا الأمر دفع أفلاطون إلى إعلان دعوته المشهورة "إنقاد الظواهر" والتي تنص على ضرورة البحث عن طريقة رياضية تجعل السماء أكثر نظاما وأكثر تناغما، أي على الرياضيين أن يلقوا على عاتقهم مسؤولية وضع نموذج من خلاله تتم تبرئة السماء من الفوضى البارزة للعيان، وانقاد الظواهر الناجمة عن الكواكب التائهة والحائرة بحيث يصبح دورانها دائريا ومنظما وبسرعة ثابتة. بعبارة أخرى على الفلكيين وضع نموذج ذهني مثالي، يعبر عن الكمال ويتجاوز النقص والاضطراب الظاهر للحواس ويعطي تفسيرا لعدم الانتظام الملحوظ في السماء.
يرجع الفضل إذن لأفلاطون في صياغة المسألة الفلكية، حيث شكلت عبارة "انقاد الظواهر" مسلمة مهمة عند علماء الفلك فهي كانت بمنزلة سقف وأفق الاشتغال الفلكي والبرنامج الطموح الذي شغل الباحثين لما يناهز الـ2000 سنة سعيا وراء المعقولية، التي توجد خلف الفوضى وهو العمل الذي سينطلق مع أرسطو وبعده بطليموس، فالعرب "خاصة مع ثورة مراغة"، الذي سيختتم بلحظة كوبيرنيك في القرن السادس عشر.
لقد كانت محاولة أرسطو "384 ــــ 323 ق.م" بمنزلة الباراديغم المؤطر لعملية الترميم المعلنة من طرف أفلاطون فحتى بطليموس "90- 168" الذي يعد خلاصة الفلك القديم والنموذج المسيطر منذ القرن الثاني الميلادي في الإسكندرية بكتاب عنوانه syntaxe mathématique "بمعنى مقال أو رسالة أو كتاب في الرياضيات"، والدي سيسميه العرب "المجسطي"، وتعني "العظيم" احتراما وتقديرا له، سيقيم فلكه على نظام أرسطو مرمما ومعدلا لكن سيكون هذا النظام به تناقضات سيفضحها العرب ويكفي التذكير بكتاب ابن الهيثم "الشكوك على بطليموس"، كما سيكون معقدا ومزعجا، حيث يحتوي على سبع دوائر كبيرة وثمانين دائرة صغيرة إلى درجة أنه يحكى عن ألفونص العاشر ملك قشتالة في إسبانيا خلال القرن 13 ـــ وهو كان رجل علم ـ أنه شكك في النموذج البطليمي متهكما بقوله "لو أن الباري تعالى استشارني قبل أن يشرع في خلق العالم لأشرت عليه بنظام فلكي أكثر بساطة".
ب‌- الفلك مع كوبيرنيكوس:
إضافة إلى عيب التعقيد، في الفلك القديم، نجد به أخطاء في التقويم لافتة للنظر، كما أن مشكلة الكواكب المتحيرة لم تجد لها سبيلا للحل.. فلزم إذن انتظار انقلاب نظري يستطيع حل تلك المآزق وهو ما كان من نصيب كوبيرنيكوس، فما الذي أنجزه كوبيرنيك بالضبط؟ إنه استبصاره العميق بأن حركات الكواكب التي تشبه الانقلاب يمكن تفسيرها بطريقة أكثر تبسيطا مما فعله بطليموس وعلماء الفلك العرب. فلو افترضنا أن الكواكب تدور حول الشمس في الوقت الذي تدور فيه حول محورها يوميا فإننا يمكن أن نستغني عن بعض أفلاك التدوير الصغيرة التي افترضها بطليموس وهكذا تبسيط حسابات الفلك تبسيطا عظيما وهو ما أدى إلى تقليل عدد أفلاك التدوير من 80 إلى 34 فقط وبهذا التبسيط أصبح نظام كوبيرنيك أعلى وأسمى من نظام بطليموس. تماشيا مع القناعة التي كانت سائدة آنذاك كون الطبيعة يجب أن تكون بسيطة. فعمل كوبيرنيك يستجيب لدعوة أفلاطون "انقاد الظواهر".
إن كوبيرنيك لم يكتشف واقعة جديدة مفردة عن الكون ولم يقدم ملاحظات عن الطبيعة أو حركات الأجرام السماوية التي لم يلحظها أحد من قبل. فكل ما فعله ــــ وثمة عبقريته ــــ هو تنظيم الوقائع المعروفة في توليفة متناسقة وأكثر بساطة، فنظرية مركزية الشمس أكثر نفعا من سابقتها نظرية مركزية الأرض فهي مريحة وسهلة التناول وتخلصنا من بعض الحسابات المعقدة للنظام القديم.
لقد كان فلك بطليموس ومعه الفلك العربي أرسطيا لأنه ظل يقبل بالعديد من مسلماته، التي كانت بمنزلة أقفال تمنع تطوره. والقفل الأول هو مركزية الأرض. ويشكل التقسيم الثنائي إلى عالمين: عالم ما فوق القمر وما تحت القمر القفل الثاني. أما القفل الثالث فهو القول بضرورة الحركة الدائرية، باعتبارها الحركة الوحيدة الممكنة للأجرام السماوية.
لقد استطاع كوبيرنيك أن يكسر بوضوح قفل مركزية الأرض، غير أنه لا يعلن موقفه صراحة من التقسيم الثنائي للعالم، لكن المسألة تفهم بشكل ضمني، فما دامت الأرض تدور هي وقمرها التابع لها حول الشمس. فهذا يعني أن عالم الكون والفساد يخترق كل لحظة عالم الكمال والثبات. يبقى القفل الأخير فإنه سيسلم من التكسير وسينتظر عمل كبلر الكبير الذي سيثبت أن الدوران يتم بشكل إهليلجي وهو ما وجه صفعة موجعة لكمال العالم العلوي.
ج – دلالة الثورة الكوبيرنيكية الفلسفية. "القلب المنهجي: من الذات إلى الموضوع".
إذن في القرن السادس عشر سيظهر بديل فلكي قائم على مركزية الشمس عوض مركزية الأرض. فما الجديد الذي سيطرأ ويقلب نمط التفكير رأسا على عقب؟ المسألة هي أن كوبيرنيكوس وبحدس قوي فهم أن حل مشكلة الكواكب المتحيرة لا يكمن في الموضوع أي الكواكب بل في الملاحظ المتحرك، فحيرة المريخ مثلا في السماء ليست مرتبطة به هو بل مرتبطة بنظرة الذات المتحركة على الأرض وتغير مواقعها، فالفلك القديم أي الأرسطي والبطلمي والعربي ركز على الموضوع "الكوكب" لحل المشكلة فتمت إضافة الدوائر تلو الدوائر فتضخمت النماذج المقترحة وازدادت تعقيدا. فالحل كان بعكس الأمر تماما والنظر إلى العقل الإنساني ليس كمتقبل سلبي للمشهد السماوي، لكن كمشارك فعال في المشهد.
هذا هو القلب الخطير الذي أنجزه كوبيرنيكوس، فمعه أصبحنا نتحرك من الملاحظ نحو الكوكب أي من الذات صوب الموضوع وليس العكس. وهو الأمر الذي سيرهن الأزمنة الحديثة كلها ويؤثر على سير العلم والفلسفة، فالكوبيرنيكية نبهت إلى عدم التعويل على التجربة العادية البسيطة لأنها لا تحل المشكلات وضرورة الانتقال إلى الافتراض والاستدلال باعتباره فوق شهادة الحواس، فمع كوبيرنيكوس سيأخذ العلم منحى مختلفا، حيث سيصبح مضادا للتلقائية، خارجا من دائرة الممارسة اليومية وعكس كل حس مشترك، بعبارة واحدة سيصبح العلم ليس هو ما نراه، بل هو ما نصنعه ونشيّده بواسطة الذات، وليس هو تلك الواقعية الساذجة، بل هو الواقعية المعاد تشكيلها. بكلمة نهائية تعني الكوبيرنيكية أنه إن كنت تريد حل معضلة تواجهك فلا تولي وجهك شطر الموضوع، بل عد إلى الذات. وهو ما سنعمل على توضيحه أكثر في المقالات المقبلة.

* أستاذ مادة الفلسفة المغرب

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي