في وداع "الاقتصادية"
ما أصعب أن يتحول مقال يتناول قضايا سياسية أو اقتصادية، إلى مقال فيه من العاطفة الشيء الكثير، ولكن هذا قدر قراء هذا المقال ــ أعانهم الله عليه. إنه المقال الأخير في صحيفة "الاقتصادية"، إثر تعييني رئيسا لتحرير صحيفة "الشرق الأوسط". إنه المقال الأخير في صحيفة تعلمت في دهاليزها أصول الصحافة. بدأت فيها صحافيا متعاونا بالقطعة، ثم عدت لسدة رئاسة تحريرها. ألا يحق لي بعد ذلك أن أحزن على مغادرتها؟!
إذا كانت أسرتي الصغيرة كان لها الفضل الأول، بعد الله، في مآزرتي ومساندتي في مشواري منذ البداية، فلا يمكن أن أنسى زملائي في صحيفة "الاقتصادية"، هذا الفريق الذي حظيت به فكان هو الداعم الأول في تقديم عمل ساعدني كثيرا في انتقالي لوظيفتي الجديدة. زملائي كانوا فعلا فريقا حظيت بالعمل معهم خلال نحو ثلاث سنوات، ولا أخفي حزني لمغادرتي هذا الفريق الرائع، لكنهم لن يغادروني.
أما قراء "الاقتصادية" فلا جدال أنهم كانوا الرقيب الأول والمشرف على عمل وأداء رئيس التحرير، يعاتبون، ويغضبون، ويوجهون، ويقترحون. حكمهم قاس، لكنه عادل. طموحاتهم عالية، إلا أنها مشروعة، وفي كل الأحوال لا يقبلون أن تكون صحيفتهم أقل من تطلعاتهم، ولا يرضون بأنها تتشابه مع غيرها، يحق لهم أن يسألوا: ما الذي قدمتموه لتختلفوا عن غيركم؟ نتفق معكم: لا يمكن أن تتشابه الصحف، و"الاقتصادية" لم تكن تقبل أن تكون كغيرها.
عندما دلفت باب هذه الصحيفة كرئيس تحرير، في تشرين الأول (أكتوبر) 2011، قلقت من تقبل زملائي في إدارة التحرير، نائب رئيس التحرير ومديري التحرير، لهذا الصحافي الذي غاب طويلا ثم حضر رئيسا لهم. الحق يقال، زملائي خيبوا ظني. كانوا أفضل مما توقعت، وثقت بهم فكانوا على قدر الثقة، حملوا عني حملا ثقيلا كان سيثقل كاهلي لولا تفانيهم في عملهم وإخلاصهم. ربما آن الأوان لأقول لهم: عذرا كان ظنكم بي أفضل من ظني بكم.
بقي أن أشير إلى أن ما تعلمته من "الاقتصادية" وفريقها، كان له الأثر الكبير في تجربتي ومرحلتي الحالية، فعلى سبيل المثال، كان زملائي يجادلونني في العناوين، والقصص، والصور، وفي سقف المقالات، والمواد التي تناسب الصفحة الأولى، وكان الجدال يرتفع تدريجيا حتى يخيل لي أنهم لن يقبلوا رأيي، وأنهم هم الرؤساء وليس أنا، أحيانا أهزمهم وأحيانا أخرى تكون الغلبة لهم، إلا أن ما يستحق الاهتمام، أنه بمجرد ما يتخذ القرار، تجدهم رأس حربة يدافعون عن القرار عن قناعة تامة به وكأنهم من اتخذه، وهذه لعمري ميزة قل أن تجدها في فريق عمل، كان حتى قبل لحظات يقنعك بعدم جدوى قرارك، وهو الآن يدافع عنه وكأنه هو من اتخذه.
أغادر "الاقتصادية" الرشيقة وبها زملاء أعزاء من محررين وكتاب وفنيين وإداريين، تعلمت منهم في ثلاث سنوات ما لن أتعلمه في مكان آخر في عشر سنوات. كنت محظوظا بهم، وبمهنيتهم، وبأريحيتهم التي خلقت جوا من العمل، من النادر أن تجد له مثيلا.
زملائي وإخوتي: سامحكم الله.. أثقلتم كاهلي بجميلكم.