حين تسمع بعينك، وترى بأذنك!
من أجمل ما قرأت لجبران خليل جبران وما ترك في روحي أثرًا عميقًا، وشرّع لي أن أسمع بعيني، وأن أرى بإذني!
ليس جنونًا، إنما أحيانًا تكتبك أسطر بطريقة تعجن أولك بأخرك، لتعيدك إليك بشكل آخر.
يقول في كتابه "البدائع والطرائف"، في مقالة "القشور واللُّباب":
"ليست الأيام والليالي بظواهرها، وأنا، أنا السائر في موكب الأيام والليالي، لست بهذا الكلام الذي أطرحه عليك إلا بقدر ما يحمله إليك الكلام من طويتي السّاكنة.
إذن لا تحسبني جاهلاً قبل أن تفحص ذاتي الخفية، ولا تتوهمني عبقريًا قبل أن تجردني من ذاتي المقتبسة.
لا تقل: هو بخيلٌ قابض الكف قبل أن ترى قلبي، أو هو الكريم الجواد قبل أن تعرف الواعز إلى كرمي وجودي.
لا تدعني محبًا حتى يتجلى لك حبي بكامل ما فيه من النور والنار، ولا تدعني خليا حتى تلمس جراحي الدامية".
حكمنا الظاهري للاشياء غالبًا ما يكون سريعًا وبناء على ما يتجلى لنا في ذات اللحظة، ولكن لو تراجعنا إلى الوراء قليلاً، لأن شدة ضوء الشمس قد يحجب نور الحقيقة..
فنظرتك للأمور ليست كما هي عليه تمامًا.
حين تقترب ينكشف لديك أكثر من غطاء وحين تبتعد يتجلى لك ما قد لا ينكشف بالقرب، فكن بعيدًا قريبا ولكن بذكاء.
أنت لا ترى الأشياء بصورتها الحقيقية إنما بتصورك أنت وخارطتك الذهنية الخاصة بك.
فأحيانا تحكم على شخص ما بأنه متكّبر وغير لطيف، وحين تحاول التودد إليه والتقرب منه تكتشف أن كل ذلك كان لكونه حذرًا ويخشى أن يتجاوز أحد دائرته التي قد تكون قد تعرضت لكثير من التجاوزات التي أرهقت داخله.
إياك والحكم على منتصف الأحداث، ولا على نصف كلام ينقل إليك، فقط تمر بك مواقف عادية تحكم بها على أحد أنه المخطئ لأنك لم تكن حاضرًا منذ بداية الحدث والموقف..
فكل ما يعبرنا من أحداث وأحاديث ما هو إلا نصف الحقيقة التي قد تحمل عمقًا آخر قد لا ندركه، ولكن لنكن مدركين بوجوده حتى ولو لم نعرفه.
نحن في بعض الأحيان نضع هالة لكلّ ما نراه وما نعرفه من أشياء وأشخاص، نعتقد إعتقادات عنها قد تذوب لحظة الإقتراب الفعلي والحقيقي.
وكما يقول جبران في مقالته الرائعة تلك:
"أنا وأنتم أيها الناس مأخوذون بما بان من حالنا، متعامون عمّا خفي من حقيقتنا.
فإن عثر أحدنا قلنا: هو الساقط، وإن تماهل قلنا: هو الخائر التلف، وإن تلعثم قلنا: هو الأخرس، وإن تأوّه قلنا: تلك حشرجة النزع فهو مائت.
أنا وأنتم مشغوفون بقشور "أنا" وسطحيات "أنتم" لذلك لا نُبصر ما أسرّه الروح إلى "أنا" وما أخفاه الروح في "أنتم".
هنا أتأمل كلامه للحظة أجد أن أغلبنا إنشغل بالظاهر حكمًا على من حوله متناسيًا عمق الجوهر الذي قد نظلم بالغفلة عنه كل ما نحكم عليه ظاهريًا، إنك قد تتعثر وقد تتخبط وقد تذنب وقد تسرق وقد تسقط وتعود للنهوض وقد تتسخ وتتنظف ولكنك في كل تلك المراحل والمنعطفات لا تفقد جوهرك الداخلي وذاتك الداخلية الثرية بنورك العظيم، أنت موطن لكل جميل، فلا تحبطك كثرة أوجاعك، أو كثرة ذنوبك، أو صورة ماضيك التي ليست هي أنت، إنما أنت أنت بداخلك وجوهر روحك التي خلقها الله لتعود إليه بسلام.
وتذكر أن لا تحكم على الآخرين بكثرة ذنوبهم وأخطائهم وما يقترفونه من أمور غير محببة، لأننا جميعًا نمتلك جوهرًا داخليًّا لا يُرى، وقد نتفاضل في لمعان ذلك الجوهر دون إدارك من حولنا، فلا يعلم خفايا القلوب سوى رَبِّهَا سبحانه.
أختم بقول جبران الأخير:
"لا ليست الحياة بسطوحها بل بخفاياها، ولا المرئيات بقشورها بل بلبابها، ولا الناس بوجوههم، بل بقلوبهم".