عالَـم انقلب رأسا على عقب
توشك محركات النمو الرئيسية على مستوى العالم أن تدور في الاتجاه المعاكس. فقد أصابت السياسات المتضاربة وأجواء انعدام اليقين التي تفرضها إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترمب الثانية الاقتصاد العالمي المتباطئ بصدمة خارجية تغير كل القواعد. وتبدو المخاطر مقلقة بشكل خاص في كل من الولايات المتحدة والصين، اللتين شكلتا مجتمعتين ما يزيد قليلا على 40% من نمو الناتج المحلي الإجمالي العالمي التراكمي منذ 2010.
الواقع أن انهيار الثقة على هذا النحو سيلقي بظلاله القاتمة الدائمة على الأداء الاقتصادي لفترة طويلة، خاصة في الولايات المتحدة ذاتها، حيث يؤثر في عملية صنع القرار في عالم المال والأعمال، خاصة الالتزامات المكلفة طويلة الأجل المرتبطة بالتوظيف والإنفاق الرأسمالي. يتعين على الشركات أن تعمل على توسيع نطاق عملياتها في المستقبل نسبة إلى التوقعات الواثقة لمسارات النمو في المستقبل ــ وهو اقتراح غير مؤكد على نحو متزايد الآن. فقد اهتزت أيضا قيم الأصول وثقة المستهلكين.
في الصين، قد تعمل التوجيهات السياسية التي تصدرها الدولة على تخفيف قوة الضربة الأولية الناجمة عن صدمة سياسات ترمب. لكن الضغوط المرتبطة بتصعيد الرسوم الجمركية من جانب ترمب كفيلة بتقويض نموذج النمو الذي تقوده الصادرات في الصين، وهذا خاصة يمثل إشكالية للنمو الاقتصادي، نظرا لضعف الطلب المحلي المستمر في الصين.
وتظل عملية إعادة التوازن الموعودة منذ فترة طويلة بقيادة المستهلكين في الاقتصاد الصيني مجرد شعار أكثر من كونها تحولا فعليا في مصادر النمو الصيني ــ خاصة في ظل شبكة الأمان الاجتماعي القاصرة التي تستمر في تشجيع الادخار الاحترازي المدفوع بالخوف. الواقع أن خطة العمل التي تتألف من 30 نقطة التي أعلنتها الصين للتو لتعزيز الطلب الأسري تلفت قدرا كبيرا من الانتباه المطلوب إلى محنة المستهلك الصيني التي تبدو مزمنة. ولكنها لا تقدم سوى قدر متواضع من الدعم لشبكة الأمان الاجتماعي غير الوافية.
من المرجح أن يؤدي الوضع الحالي إلى تفاقم الصراع الصيني الأمريكي، بل إنها قد تُـفضي إلى إضعاف آفاق النمو في البلدين بشكل كبير. ولا تعتمدوا على الاقتصادات الأخرى لملء هذا الفراغ. في نهاية المطاف، قد تتمكن الهند من التعويض عن بعض الفراغ. لكن حصتها في الناتج المحلي الإجمالي العالمي الصغيرة نسبيا ــ حاليا 8.5% (تبعا لتعادل القوة الشرائية)، مقارنة بنحو 34% للصين والولايات المتحدة مجتمعتين ــ تعني أن ذلك اليوم لا يزال في المستقبل البعيد.
ينطبق الأمر ذاته على أوروبا. في حين أن حصة الاتحاد الأوروبي في الناتج المحلي الإجمالي العالمي، التي تبلغ 14%، تعادل ضعف حصة الهند تقريبا، فإن أوروبا لا تزال مُـكَـبَّـلة بنمو هزيل تتفاقم التأثيرات المترتبة عليه بفعل الضغوط التجارية المتزايدة المرتبطة بحرب التعريفات الجمركية العالمية المتصاعدة.
ولكن ماذا يعني كل هذا للآفاق الاقتصادية العالمية في السنوات المقبلة؟ الحق أن التوقعات الأساسية الحالية لنمو الناتج المحلي الإجمالي العالمي بنسبة 3.3% تقريبا خلال الفترة 2025-2026، وفقا لتوقعات حديثة من جانب صندوق النقد الدولي، متفائلة للغاية.
يشير هذا إلى انخفاض جزئي في توقعات النمو الاقتصادي العالمي لعام 2025، مع ازدياد التباطؤ وضوحا بدرجة كبيرة في 2026 وما بعده. وقد يؤدي هذا بسهولة إلى دفع الاقتصاد العالمي المتزايد الهشاشة إلى الهبوط إلى عتبة النمو التي لا تتجاوز 2.5%، التي ترتبط عادة بالركود العالمي المباشر.
ومن غير المرجح أن يكون هذا نقصا عاديا في النمو العالمي. فبقدر ما تستهدف حرب التعريفات الجمركية تعزيز التوريد من جانب الأصدقاء ودعم مرونة سلاسل التوريد، سيخضع جانب العرض في الاقتصاد العالمي في الأرجح لضغوط كبيرة. الآن، تُـفـرَض طبقة جديدة من تكاليف التكيّف على عالم كان خاضعا للعولمة ذات يوم. لن تستغرق إعادة عمليات الإنتاج إلى منتجين محليين أعلى تكلفة وقتا طويلا فحسب، بل قد تؤدي أيضا إلى تآكل كفاءات الإنتاج، والتجميع، والتسليم التي دعمت عملية خفض التضخم في مختلف أنحاء العالم على مدى العقود الثلاثة الأخيرة من الزمن.
ينطوي الصراع التجاري العالمي على ديناميكية مماثلة. ذلك أن التكاليف المرتفعة المرتبطة بالتصعيد "المتبادل" القادم من جانب ترمب للتعريفات الجمركية متعددة الأطراف، التي من المقرر الإعلان عنها في الثاني من أبريل، تمثل إشكالية عويصة بشكل خاص. ففي مواجهة نقص محتمل في النمو الاقتصادي، من المرجح أن تؤدي التكلفة الإضافية وضغوط الأسعار إلى قلب الموازين نحو ركود تضخمي عالمي.
باختصار، تُـعَـد الصدمة الحالية العالمية المكافئ الوظيفي لأزمة تامة النضج. ومن المرجح أن تخلف أثرا دائما على الاقتصادين الأمريكي والصيني، ويكاد يكون من المؤكد أن العدوى ستنتشر في مختلف أنحاء العالم عن طريق التجارة وتدفقات رأس المال عبر الحدود. لعل الأمر الأكثر أهمية هو أن هذه أزمة جيوستراتيجية، تعكس انقلابا لدور أمريكا القيادي العالمي.
خاص بـ "الاقتصادية"حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2025.