مركز وطني للتفكير الاستراتيجي والدراسات المستقبلية
في ظل ما يدور من حولنا من أحداث وتزايد التهديدات لأمننا الوطني واستقرارنا الاجتماعي وتنميتنا الاقتصادية، يفرض علينا صناعة القرارات الصعبة. ومكمن الصعوبة في أنها تتطلب إحداث تغييرات جذرية في تعاملنا مع ما يجري على الساحتين الداخلية والخارجية. لقد كانت المشكلات فيما سبق أقل تعقيدا وكان التعامل معها مباشرا وفي اللحظة ذاتها، إلا أن ذلك تغير، فهناك تحولات كبيرة على المستوى الوطني، من أهمها زيادة عدد السكان وارتفاع نسبة التحضر والتغير الثقافي والسياسي وارتفاع سقف التوقعات، أما على الصعيد العالمي فهو سيطرة الولايات المتحدة كقطب أوحد دون منافسة تذكر من دول أخرى، ما أفسد توازن القوى العالمي الذي كان يردع فرض سياسة الأمر الواقع. وهكذا اخترعوا ما يسمى العولمة، التي هي نوع من أنواع الاستعمار الثقافي والسيطرة الاقتصادية حتى أصبح التمسك بالقيم والمبادئ التقليدية للمجتمعات أمرا غير مقبول بل مجرما. ورفعوا شعارهم غير الحضاري "إذا لم تكن معي فأنت ضدي" وراحوا باسم نشر الديمقراطية المزعومة يخوضون حروبا جاهلية تسفك فيها الدماء وتستباح الأعراض وتنهب خيرات البلدان. هذه التصرفات الحمقى كشفت سوءة الحضارة الغربية وأنها مجرد صورة جميلة تخفي وراءها مبدأ الغابة الأول في أن "القوي يأكل الضعيف" وأن "البقاء للأقوى وليس للأصلح". فعندما قويت تلك الدول وسيطرت، طغت وتخلت عن مبادئها الديمقراطية التي في أساسها تنطلق من احترام حرية الآخرين وتحقيق العدل والمساواة. وما حدث خلال العقدين الماضيين في المنطقة من احتلال ودمار أوردت بعض المجتمعات الهلاك والدمار، دليل واضح على الهمجية والغوغائية الديمقراطية.
هذا جميعه يشير إلى حقيقة يجب إدراكها في أنه لم تعد المصالح وحدها تحدد العلاقة بين الدول، بل ما يملكه كل طرف من قوة في التفاوض، فهي التي تحدد نقطة الالتقاء والتوازن في العلاقة. الأمر الآخر وهو على المستوى ذاته من الأهمية في أن التنبؤ بمستقبل العلاقات الدولية أصبح أكثر صعوبة لأنه يتذبذب حسب ميزان القوة بين الدول. وكأنما القانون الفيزيائي ينطبق هنا على مجال السياسة في أن أي فراغ لا بد أن يملأ! كل ذلك يدفع الدول إذا ما أرادت الاستقرار والاستدامة إلى التكيف مع التغيرات واحتوائها بل جعلها تعمل لمصلحتها. وهذا لا يتأتى إلا من خلال الإعداد للمستقبل وتحصين النظام الاجتماعي والسياسي بتطوير آليات جديدة في إدارة المجتمع وتطوير صناعة القرار العام. فقوة الجبهة الداخلية العنصر الأساس في مواجهة الآخرين سواء من نظنهم أصدقاء أو الأعداء. لكن كيف يمكن لصناع القرار الوطني معرفة مستوى واتجاه وأسلوب تلك الآليات والتوقيت المناسب لتطبيقها؟ هذا تساؤل مهم وأهميته تنبع من أنه متعلق بطريقة تفكيرنا وفلسفتنا في النظر للأمور والإطار الزمني الذي نضع فيه تصوراتنا للمستقبل. فإن كانت التحديات والمشكلات التي نواجهها تبدو صغيرة في الأفق البعيد، إلا أنها في واقع الأمر كبيرة مثل السفينة نراها من بعيد أصغر من حجمها الحقيقي. ولذا وضع الأمور في نصابها أمر في غاية الأهمية لأنه يحدد ماذا علينا فعله؟ وأين؟ ومتى؟ وكيف؟ وهذا يجعل من الضروري معرفة الوضع الراهن وتوجهات الرأي العام والتنبؤ بالمستقبل والإعداد له. بل إن أفضل طريقة لإدارة التغير هي إحداثه! ولذا فإن المبادرة إلى إيجاد أوضاع تعمل لمصلحتنا وتشكيل المستقبل فيما يتعلق بإدارة المجتمع أو العلاقة مع الدول الأخرى هو السبيل إلى تحصين أنفسنا من المفاجآت الخطرة التي تحدث على حين غرة وتمثل تهديدا لأمننا الوطني. وحقيقة الأمر أن من يعلم ويكون على دراية ووعي بما يجري حوله يكون أكثر قدرة على التأثير في سير الأمور واتخاذ التدابير اللازمة بوقت كاف لتجنب المخاطر والتهديدات. ولذا ليس مستغربا أن تكون الدول الأكثر اهتماما وإعدادا للمستقبل هي الأكثر قوة وسيطرة وتحكما. هناك سباق محموم تخوضه جميع الدول في مضمار القوة الدولية والفوز به يكون بخسارة الآخرين! فللأسف مبدأ الندرة والمشاحنة والعداوة هو ما يسيطر على العلاقات بين الدول وليس مبدأ التعاون والرؤية المشتركة التي تحقق السلام والازدهار الاقتصادي. ولأهمية التنبؤ بالمستقبل والفوز في السباق التنافسي سعى كثير من الدول إلى إنشاء مراكز للتفكير الاستراتيجي والدراسات المستقبلية أو ما يسمى Think Tank، بحيث تقدم دراسات تنبؤية حول التوجهات المستقبلية وأنماط التحولات السياسية والاقتصادية وتحديد القضايا الحرجة والفرص والأولويات، وما يجب فعله للتقليل من المخاطر والتهديدات وزيادة احتمالية اغتنام الفرص. هذه المراكز هي بمنزلة راصد لمستجدات الحاضر والتغيرات المحتملة مستقبلا. ومن هنا يقترح إنشاء مركز وطني للتفكير الاستراتيجي والدراسات المستقبلية يكون ذراعا بحثية لمجلسي الشؤون السياسية والأمنية والشؤون الاقتصادية والتنمية. ولا يقتصر دور المركز على تقديم الدراسات والتعرف على توجهات الرأي العام والتغيرات الدولية، ولكن تفعيل دور الجامعات كمؤسسات بحثية والاستفادة من الخبرات الوطنية، إذ تتناول الدراسات الاستراتيجية مجالات متنوعة على مختلف الصعد. كما سيزيد المركز من مستوى الوعي ويكون بمنزلة قارع لجرس الإنذار ورفع مستوى الوعي فيما يتعلق بالمواضيع ذات الحساسية السياسية العالية التي تركت دون نقاش لسبب أو لآخر، ولكن عدم مناقشتها لا يعني عدم وجودها. وإذا كان من السهل المكوث في منطقة الراحة والتصرف وكأن شيئا لم يكن، إلا أن ذلك أمر خطير يجعلنا لا ندرك حجم المخاطر المحدقة بنا، وبالتالي تحديد ما يتعين علينا فعله. إنه عصر الاعتماد على النفس، وهو ما أثبتته "عاصفة الحزم" والكل رأى كيف أن قيادة الملك الحازم الجاد سلمان بن عبدالعزيز غيرت المشهد في المنطقة وفتحت نافذة أمل وإعادة الروح للأمة. هذا التحرك النشط والإيجابي للدولة يستلزم إنشاء مركز للتفكير الاستراتيجي والدراسات المستقبلية ليدعم صناعة القرار السياسي والاقتصادي ويجعلنا في مقعد المتحكم. وقد يحتضن هذا المركز كلية الدراسات الحكومية التي تم اقتراحها في مقال الأسبوع الماضي.