ثقافة الكراهية .. وأزمة الولاء للوطن والولاءات الضيقة

المواقف الحرجة والعصيبة هي المحك لمعرفة التوجهات الحقيقية للمثقفين وغيرهم من المواطنين تجاه القضايا الوطنية، ومدى موازنتهم بين انتماءاتهم الضيقة مهما كانت والانتماء الكبير للوطن. هناك من المثقفين الذين غلبت عليهم الولاءات الصغيرة، فراحوا في ركب العموم بغوغائية يرفعون الشعارات ذاتها بحثا عن الشهرة، أو ربما تعبيرا عن اللاوعي الذي يجذبهم إلى التفكير بعاطفة تلغي الموضوعية والحيادية. وعندما يفقد المثقف الموضوعية والحيادية يفقد كل شيء. فدور المجتمع المثقف قيادة العموم والارتقاء بهم درجات أعلى في السلم الحضاري. وأعلى درجاته هو الإيمان بالمشتركات والثوابت الوطنية ليرى ويفهم ويحكم على الأمور من خلالها. وإذا كانت الدعوة إلى التطوير وحتى النقد اللاذع داخل المشترك الوطني مقبولا، فإن الحديث خارجه أمر غير مقبول، بل يصل إلى حد وصفه بالعداوة والجرم الكبير. فالخروج عن الإجماع، والتحدث بلغة تثير الفتنة يتنافى مع دور المثقف التوعوي ورسالته في التسامي فوق الجزئيات والمصالح الخاصة، إلى نظرة واسعة الأفق تجمع ولا تفرق، وتعلم ولا تجهل، وتبحث في الحلول ولا تستغرقها المشكلات. فالمثقفون "على الأقل نظريا" هم من يحمل راية التنوير، ويتصدون للتحديات، ويسعون إلى إعادة تثقيف المجتمع ليكون أفراده أكثر قدرة على استيعاب أدب الاختلاف، بل احترامه تعزيزا للحمة فيما بينهم، وليس العداوة والبغضاء والصراع وتأجيج الخلاف. وإذا كان الاختلاف سُنَّةٌ إلهية، فهذا يعني وجوب التعايش بين الناس، وهو يقتضي بالضرورة البحث عن المشترك وليس المختلف. فالله خلقنا شعوبا وقبائل لنتعارف ونتآلف، وهذا لا يكون إلا بالإيمان العميق بأن التعاون يثمر إنتاجا ورفاهة ومنفعة جماعية، وأنه كلما اتسعت دائرة القاسم المشترك، كان ذلك أكثر منفعة للمجتمع، إلا أن ذلك كلام نظري تصدقه أو تكذبه الأفعال. فمن السهل الحديث عن المشترك، لكن من الصعب تطبيقه. ومكمن الصعوبة في انجذاب الأفراد بطبيعتهم الفطرية الأولية إلى انتماءاتهم الضيقة ونزعتهم إلى التحزب والعصبية. وتكون تلك العصبية مقبولة طالما أنها لا تتعارض مع دائرة الانتماء الأكبر، بل إنها تكون مطلوبة وضرورية عندما تكون رافدا وداعما لذلك الانتماء الأكبر. ولكن الإشكالية تقع عندما يتقوقع الناس، وينكفئون داخل تحزباتهم الضيقة لينعدم التفاعل البناء والتعايش السلمي بين فئات المجتمع، وتعمل قوى العصبية والتحزب في اتجاه معاكس للمشترك العام، ما يقوض الأمن، ويعطل سبل السلام، ويعوق التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وهذا هو الجهل بعينه، ليتحول الناس بدون وعي وحساب لمآلات الأمور إلى الغوغائية والانتصار للذات أو المذهب أو الطائفة، والسير في ركب القطيع الذي تحركه عاطفة الجماعة دون أن يجرؤ أحد على اعتراض هذا التدفق والتدافع العاطفي. وكأنما الناس ارتدوا لجاهليتهم ولم يلتفتوا إلى قول الرسول "دعوها فإِنّها منْتِنة". وهذا الوصف لهذه العصبية الحمقاء يعني أنها مؤذية، تشمئز منها النفوس الطيبة، حتى إن الإنسان لا يقوى على مخالطة من حوله، ليتفرق الجمع ويتشتت، ولا يكاد يكون في النفوس ما يدعو إلى التقارب والتسامح وتحمل أخطاء بعضهم البعض.
وعندما يستولي الفكر الطائفي والتشنج العاطفي والاصطفاف المذهبي على المثقف وطريقة تفكيره ورؤيته للعالم من حوله، فهذا إيذان بسقوطه وانتفاء مصداقيته لثقافته التي هي رأسماله. بالأمس كان أحد المثقفين الشيعة من الذين لديهم طروحات إصلاحية مستنيرة يدعي أن الحكومة شريك فيما حدث في القديح، وهذا أمر خطير جدا، ليس لكونه فقط كلاما كاذبا ويجافي الحقيقة، ولكنه تطاول على الدولة والتشكيك فيها، وهي أساس كينونتنا وهويتنا. وإذا كان هذا فكر المثقف، فما بال العموم الذين تحركهم نزعات الهوى، ويفتقدون التفكير المنطقي والرشداني في تناول القضايا المصيرية والحساسة. ولذا لم يكن مستغربا أن يأتي أحدهم ويناقش ولي العهد ووزير الداخلية الأمير محمد بن نايف ويصرح بما صرح به ذلك المثقف بجرأة تحسب للنظام السعودي الذي يضمن حرية التعبير، وتحسب على ذلك المواطن الذي لم يحترم نطاق الحرية، وردد كالببغاء كلاما لم يكن مبنيا على حقائق، وإنما انعكاس لثقافة الكراهية التي غُذِّيَ بها منذ الصغر، وهو لا شك جحود للنعمة ونكران لجميل وفضل الدولة. ولو كان في بلد آخر مثل إيران لعلق بالمشنقة أمام الملأ كما يُفعَلُ بالأحوازيين وهم فقط يطالبون بأدنى حقوقهم الإنسانية، ويعانون الاضطهاد الديني والسياسي. في المقابل، نجد أن الأمير محمد بن نايف احتوى السائل وسؤاله الذي فيه تجنٍّ واتهام صريح للدولة، وتشكيك في جهودها، بِرَدٍّ منطقي وحوار أبوي، وصل بالمواطن إلى أن يقول أنا مع الدولة، وهذا هو المهم كما قال الأمير في نهاية الحوار.
من العيب أن يصل بالبعض وخاصة المثقفين إلى الدناءة في أن يتحدث ببجاحة، وأن يختبر صبر الدولة التي تمثله وتحرسه ويعيش في كنفها. وعندما تكون الأطروحات مشبعة بالأيديولوجيا وليست منطلقة من رؤية واقعية، تقف حجر عثرة في التعلم، وتوسيع المدارك، ورؤية الأمور على حقيقتها. هؤلاء سجناء فكرهم، يدورون في فلكه الضيق، ويتعاملون مع الأحداث بأحكام مسبقة تفتقد الحيادية والموضوعية. وعندما يصر المثقف على تقديم فكره دون محاولة فهم الواقع، لا يمنح الآخرين الفرصة لإبداء آرائهم؛ لأنه يتلبسه شعور بأنه الوحيد الذي على الحق، ويسيطر على فكره وَهْمُ أنه العالم بما يجب عمله، وأنه يحق له ما لا يحق لغيره. وبهذا التفكير المغلق للمثقف ستبدو الدولة دائما مقصرة من وجهة نظره، بل اتهامها بأعمال إرهابية، ولن يرضى عنها مهما فعلت.
والحقيقة أن كلًّا يرى الناس بعين طبعه، فالإرهابي يرى الآخرين إرهابيين ويلصق التهمة بهم. والمقصود بالإرهابي هنا ليس فقط من يحمل السلاح، ولكن الأشد من ذلك حمله فكرا تحريضيا يخرجه من دائرة المشترك ليتحول إلى عدو يعيش بيننا، يبث سمومه الفكرية بطريقة ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب. ولذا يفترض على الدولة معاقبة كل من يتجرأ عليها وعلى هيبتها، ليعود المثقف المتعالي إلى حجمه الطبيعي، ليزن الأمور بميزان العقل والحكمة واحترام اللحمة الوطنية وقدسيتها التي لا يرضى المواطنون الشرفاء بتدنيسها ببث الفرقة عبر فكر عقيم لا يريد بنا إلا الهلاك.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي