محاكمة عباس بن فرناس
الدكتور محمد عبد الله عنان ـــ رحمه الله ـــ مؤرخ وعالم موسوعي، له عديد من المؤلفات القيمة، ومن بين هذه المؤلفات كتاب: "تراجم إسلامية شرقية وأندلسية"، وتحدث في هذا الكتاب عن عديد من الشخصيات الإسلامية السياسية والعلمية والأدبية في القرون السابقة، ومن بينهم الأديب والشاعر والمخترع عباس بن فرناس، صاحب محاولة الطيران الشهيرة. وينقل لنا محمد عبد الله عنان في كتابه هذا قصة محاكمة عباس بن فرناس بتهمة الزندقة والكفر، ويذكر أنه نقل هذه القصة من قطعة مخطوطة من تاريخ ابن حيان حصل على صورتها من مكتبة جامع القرويين في فاس، ولخصها عنان بقوله:
"على أن أعجب صفحة في حياة ابن فرناس، وأكثرها إيلاما هي محاكمته الشهيرة بتهمة الزندقة والكفر، فقد أثار هذا العلامة الفذ ببحوثه واختراعاته العلمية الفريدة، حسد الفقهاء وشكوكهم، كما أثارت بحوثه الكيماوية والفلكية بداره في الربض الغربي من قرطبة ثم محاولته للطيران، ظنون الكافة ودهشتهم، واعتقادهم أن الرجل مارق، يتمتع بقوى شيطانية خارقة، وقد أثمرت سعاية خصومه من الفقهاء وغيرهم في النهاية إلى اتهامه بالكفر والزندقة، وإتيان الخوارق الشيطانية، فاعتقل وقدم للمحاكمة، أمام قاضي قرطبة سليمان بن أسود الغافقي، وعقدت المحاكمة بالمسجد الجامع، وهرع الناس لشهودها، واجتمع حشد من العامة للشهود عليه. وقد نقل إلينا المؤرخ المعاصر بعض أقوال أولئك الشهود، فمنهم من قال: سمعت ابن فرناس يقول: "مفاعيل مفاعيل"، ومنهم من قال: "رأيت الدم تفور من قناة داره ليلة ينير" إلى غير ذلك مما يصفه المؤرخ "بأحموقات من غتراء شهود عليه ذوى جهل وفدامة" وكان القاضي سليمان بن أسود على الرغم من صرامته، ذهنا مستنيرا، فلم ترقه تلك الترهات، ولم يجد فيها طائلا، فشاور جماعة الفقهاء، فيما قيد منها، ولم يجد سبيلا إلى مؤاخذة ابن فرناس، وقضى ببراءته وإطلاق سراحه".