.. فلنشرب من البحر

تحدثنا في مقال سابق عن مصادر المياه المباشرة أو التقليدية وهي المياه السطحية والجوفية الضحلة وبينا أن هذه المصادر ـــ التي تمثل حاليا قرابة 90 في المائة من مصادر الماء عالميا- في تناقص مطرد نتيجة للتلوث والاستخدام المفرط للماء بسبب الزيادة السكانية وما ترتب عليها من تطور صناعي وزراعي. واليوم نتحدث عن مصادر الماء غير HG تقليدية، التي ظهرت في القرن الماضي وتمثل الأمل في تحقيق الأمن المائي للعالم. فمن المتوقع أن يتجاوز الطلب العالمي للمياه العذبة كمية المياه المتوفرة على سطح الكوكب في حدود عام 2040. وهذا ما يحتم ضرورة إيجاد مصادر بديلة أو غير تقليدية للمياه العذبة.
ليس الهدف بالطبع أن تسد هذه المصادر الجديدة حاجة العالم للمياه، بل أن تكون مكملة للمصادر التقليدية، خاصة في المناطق الجافة كمنطقتنا العربية أو في الجزر. فمع الاضمحلال المستمر للمصادر التقليدية أو غيابها من الأساس توجه كثير من البلدان كدول الخليج العربي والشمال الإفريقي وسنغافورة إلى المصادر غير التقليدية لمواجهة الطلب المتزايد على المياه.
المصادر غير التقليدية تتمثل في مكونين رئيسين: مياه البحر ومياه الصرف "وخاصة الصحي". نظرة سريعة إلى هذين المكونين تشير بوضوح إلى الحاجة الماسة إلى معالجة هذه المياه لتصبح صالحة للشرب أو للاستخدام الزراعي أي الحاجة إلى إنفاق كثير من الأموال. لكن وبخلاف المصادر التقليدية، فهذه المصادر وإن كانت في حاجة إلى معالجة، فإنها تمتاز بالوفرة ولا خوف من نضوبها. وهناك ميزة تنافسية أخرى لهذه المصادر وتحديدا مياه البحار وهي أن نوعية المياه ثابتة نسبيا ولا تتغير بشكل كبير.
وكما في جميع الخيارات، لا تخلو هذه المصادر من تحديات وعوائق. للتبسيط هناك معضلتان أساسيتان مع تحلية مياه البحر: الأولى التكلفة العالية لهذه التقنية والثانية تتمثل في صعوبة نقل المياه خاصة للمناطق الداخلية.
تحلية مياه البحر تتم إما عن طريق استخدام الحرارة وإما عن طريق استخدام الضغط. كلا الخيارين مكلف وإن كانت الطرق الحرارية أشد تكلفة "0.75 دولار لكل متر مكعب" وهي تقريبا ضعف تكلفة التحلية باستخدام الأغشية أو الضغط. ولذلك توجد نحو 70 في المائة من الطاقة الإنتاجية العالمية لمحطات التحلية في الدول الغنية بالنفط كدول الخليج وشمال إفريقيا. هذه التكلفة مستمرة في الانخفاض نتيجة البحوث المستمرة للتقليل من استهلاك الطاقة "كالذي يتم حاليا في أماكن عدة ومن بينها السعودية من استخدام الطاقة الشمسية لتحلية مياه البحر".
وحتى بعد المعالجة، يتوجب نقل المياه المحلاة إلى المدن الداخلية وهي عملية مكلفة لاستهلاكها الشره للطاقة عدا عن التكلفة الرأسمالية والتشغيلية العالية. ومن ذلك أنه ولمواجهة الشح الشديد والطلب المتزايد على المياه، قررت مدينة لاس فيجاس الواقعة في صحراء نيفادا الأمريكية بناء محطة تحلية لمياه البحر على ساحل كاليفورنيا. لكن الدراسات أشارت إلى أن تكاليف ضخ المياه المحلاة من الساحل إلى لاس فيجاس ـــ تقدر المسافة بـ 450 كيلو مترا ـــ مكلفة جدا، بل وأكثر من تكاليف بناء المحطة ذاتها ولهذا تم التخلي عن المشروع! عند الاطلاع على معلومة كهذه يزداد الإعجاب بإنجازات التحلية محليا وقيامها بضخ مئات الملايين من الأمتار المكعبة لمسافات تتجاوز الستة آلاف كيلو متر لما يزيد على 50 مدينة في المملكة.
أما مياه الصرف الصحي فهي كمياه البحر تتوافر بكميات كبيرة وتتطلب معالجة مكلفة نوعا ما. لكن استخدام مياه الصرف كمصدر رئيس للمياه لا يزال محدودا جدا، مقارنة بمياه البحر والسبب يرجع إلى معضلتين أساسيتين أيضا:
الأولى: صعوبة "وليس استحالة" التأكد من صلاحية هذه المياه للاستخدام البشري خصوصا مع ظهور عديد من الملوثات الكيماوية، التي لم تكن معروفة سابقا. فمعالجة مياه الصرف للتخلص من الملوثات المعتادة هي عملية سهلة تقنيا. المشكلة تكمن في ظهور ملوثات مستعصية على تقنيات المعالجة الحالية Persistent Micro pollutants نتيجة استخدام عديد من المواد الكيميائية الجديدة في المنازل أو استهلاك عديد من الأدوية، التي تجد طريقها إلى مياه الصرف. كثير من هذه المكونات الكيماوية لا يمكن التخلص منها في معامل معالجة الصرف أو حتى في المعامل التقليدية لتنقية المياه.
المعضلة الثانية: مسألة التقبل الاجتماعي لاستخدام مياه الصرف المعالجة، خصوصا للشرب. بعض الدول قامت بحلول معينة بهدف الحد من التخوف الاجتماعي كخلط نسبة بسيطة من مياه الصرف الصحي المعالجة مع مياه الشرب العادية "كما فعلت سنغافورة الرائدة في هذا المجال". دولة أخرى قامت بمعالجة مياه الصرف الصحي ثم ضخها في باطن الأرض Artificial Recharge لاستخراجها لاحقا كمياه جوفية، ما أسهم في تقبل المجتمع لها.
خلاصة القول أنه ومع الزيادة الهائلة في الطلب العالمي على المياه بسبب الزيادة السكانية والتطور الصناعي والزراعي والإفراط في استخدام المياه بشكل غير مبرر فإن الاعتماد على مصادر المياه التقليدية كالأنهار والبحيرات هو حل غير مجد على المدى الطويل خاصة في ظل إهمال ترشيد المياه لأغلبية الدول وتزداد الحاجة للدول التي لا تمتلك مصادر مياه تقليدية. وجود خطة متكاملة تبدأ في التقليل من الاستهلاك أولا ثم التوجه نحو المصادر غير التقليدية ثانيا يبدو الحل الأمثل والمستدام لدول كثيرة. وللتغلب على التحديات الحالية المتمثلة في التكلفة العالية وظهور الجديد وعديد من الملوثات تبرز أهمية البحوث والتطوير للتسريع في عملية استخدام المصادر غير التقليدية على نطاق أوسع.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي