سرقة الحجيج.. الفعل الذميم .. البداية والنهاية

سرقة الحجيج.. الفعل الذميم .. البداية والنهاية

سرقة الحجيج أمر قبيح كانت العرب تعير من يفعله. روي أن الأقرع بن حابس التميمي جاء إلى رسول الله ـــ صلى الله عليه وسلم ــــ فقال: إنما بايعك سراق الحجيج، وذكر أسماء بعض القبائل التي تعير بسرقة الحجيج. وفي حديث آخر: قدم حيي بن أخطب، وكعب بن الأشرف مكة على قريش فحالفوهم على قتال رسول الله ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ. فقالوا لهم: أنتم أهل العلم القديم وأهل الكتاب، فأخبرونا عنا وعن محمد، قالوا: ما أنتم وما محمد؟ قالوا: نحن ننحر الكوماء ونسقي اللبن على الماء ونفك العناة ونسقي الحجيج، ونصل الأرحام. قالوا: فما محمد؟ قالوا: صنبور قطع أرحامنا واتبعه سراق الحجيج بنو غفار. قالوا: لا، بل أنتم خير منه وأهدى سبيلا. فأنزل الله "ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت" الآية. قال سفيان: كانت غفار سرقة في الجاهلية.
ويتبين لنا من هذين النصين وغيرهما أن عادة سرقة الحجيج كانت معروفة عند العرب في الجاهلية وكانت مذمومة، ومن المعروف أن العرب كانت تحج إلى الكعبة قبل الإسلام.
ولا شك أن هذا الفعل من الأفعال الذميمة القبيحة. وتنتشر هذه العادة في الفترات التي تضعف فيها السلطة، وتصبح عاجزة عن فرض سيطرتها على قبائل الجزيرة العربية، وعاجزة عن بسط الأمن في طرق الحجاج. وما يؤسف له أن كثيرا من مناطق الجزيرة العربية عانت إهمال الدول الإسلامية المتعاقبة التي جاءت بعد زمن الخلفاء الراشدين رضوان الله تعالى عنهم، لكن هناك من الخلفاء والزعماء والقادة من انتبه لذلك فأولى الجزيرة العربية شيئا من الاهتمام، واستطاع أن يوفر حدا جيدا من الأمن على الأقل لقاصدي بيت الله الحرم من الحجاج. وحين قامت الدولة السعودية الأولى استطاع بعض حكامها كالإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود، وابنه الإمام سعود أن يفرضا حالة نادرة من الأمن في ربوع كثير من مناطق الجزيرة العربية، وأمنا سبل الحج بشكل فريد. أما في عصر الدولة السعودية الثانية فقد كان للإمام تركي بن عبد الله وابنه الإمام فيصل جهد جيد في هذا المجال، ونجد في شعر ابن مشرف الأحسائي قصيدة في مدح الإمام عبد الله الفيصل يشير فيها إلى جهوده في تأمين السبل، ويذكر فيها تأديبه لقبيلة وصفها بسراق الحجيج، يقول ابن مشرف:

أبو النجم عبد الله حامي حمى الهدى
بغرته بشرى الندى ومخائله
بنجد حثا المال الجزيل تبرعا
فعاشت به أيتامه وأرامله
وكم غارة شعواء شن على العدى
وكم فارس منهم نعته حلائله
فأصخن حربا بالحروب فسالمت
ودانت له نجد وذلت قبائله
ومن دم سراق الحجيج...
سقى البيض حتى أنهل الرمح حامله
وقائع سل عنها الحجاز وأهله
ونجدا ومن بالبحر ينبيك ساحله
جهادا ودرءا للفساد ونية
وسيعا به يرجو المثوبة فاعله
تولى فلم يرض المكوس لدينه
عفافا ومن يعفف تعف عوامله
كما شهد عصر الأمير محمد بن رشيد حالة جيدة من الأمن، وحماية القوافل القادمة إلى بيت الله الحرام. ولما استطاع الملك عبد العزيز توحيد هذه البلاد، وضع نصب عينيه نشر الأمن والأمان، فانقطعت في عصره وحتى الآن عادة سرقة الحجيج.
تكبر وتسرق الحاج:
وعادة سرقة الحجيج فرضت من قبل قانون الصحراء، وهي وإن كانت لا تقبل ولا يقرها شرع ولا عقل، إلا أن من أسبابها إهمال الدول الإسلامية للقبائل ومناطق الجزيرة العربية، إضافة إلى عدم معرفة كثير من الحجاج بعادات البدو وقوانينهم وأعرافهم. فلسان حال البدوي الذي أهملته الدولة يقول:

إذا لم يكن إلا الأسنة مركبا
فما حيلة المضطر إلا ركوبها
وما دام الأمر كذلك فلا عجب أن تتمنى امرأة بدوية من إحدى القبائل الواقعة على طريق الحاج أن يقوم ابنها بهذا العمل، فقد ذكروا أن بدوية كانت تلاعب طفلها وترقصه وهي تنشد وتغني:

يا أبو عيون لجلاج
تكبر وتسرق الحاج

علماء سرقوا في طريق الحج:
باستعراض كتب التراجم والرحلات، وخصوصا رحلات الحج نجد عددا كبيرا من القصص التي وقعت لعلماء وشعراء ومشاهير تعرضوا للسرقة وهم في طريقهم للحج أو في طريق عودتهم منه، ومن بين هؤلاء اللغوي الشهير أبو منصور الأزهري الذي ولد في هرات بأفغانستان ورحل في طلب العلم إلى عدة أقطار من بينها العراق، ثم قرر الحج، فاختطفه القرامطة وهو في طريقه للحج سنة 313 هـ، ومكث معهم ثلاث سنوات، وأفاد من لغة الأعراب الذين عاش معهم هذه المدة. وقد أشار في كتابه الرائع "تهذيب اللغة" إلى هذه القصة، ويقول حاكيا بعض ما حدث: "امتحنت بالأسر سنة عارضت القرامطة الحاج بالهبير فكنت لقوم يتكلمون بطباعهم البدوية ولا يكاد يوجد في منطقهم لحن أو خطأ فاحش فبقيت في أسرهم دهرا طويلا وكنا نشتي بالدهناء ونرتبع بالصمان واستفدت منهم ألفاظا جمة".
ومنهم عالم القراءات الشهير شمس الدين محمد بن محمد بن الجزري (ت 833هـ)، الذي سرقه بعض الأعراب وهو ذاهب للحج، فلجأ إلى مدينة عنيزة حيث استقبله أميرها وأكرمه وأرسل إلى الأعراب من أحضر منهم بعض حاجاته التي سرقوها خصوصا كتبه، وأقام ابن الجزري عدة أشهر في مدينة عنيزة ضيفا عليهم ومعلما لأبنائهم حيث نظم فيها منظومته المشهورة "الدرة في القراءات"، وأشار فيها إلى أنه نظمها في مدينة عنيزة إذ يقول:

غريبة أوطان بنجد نظمتها
وعظم اشتغال البال واف وكيف لا
فأدركني اللطف الخفي وردني
عنيزة حتى جاءني من تكفلا
ومنهم الشيخ محمد بن عبد الوهاب (ت 1206هـ)، ويورد لنا القصة حفيده الشيخ عبد الرحمن بن حسن فيقول: "فلما قضى الحج وقف في الملتزم وسأل الله تعالى أن يظهر هذا الدين بدعوته وأن يرزقه القبول من الناس، فخرج قاصدا المدينة مع الحاج يريد الشام، فعرض له بعض سراق الحجيج، فضربوه وسلبوه وأخذوا ما معه وشجوا رأسه، وعاقه ذلك عن سيره مع الحجاج، فقدم المدينة بعد أن خرج الحاج منها، فأقام بها وحضر عند العلماء إذ ذاك، منهم الشيخ محمد حياة السندي، وأخذ عنه كتب الحديث إجازة في جميعها وقراءة لبعضها، ووجد فيها بعض الحنابلة منهم الشيخ عبد الله بن إبراهيم بن سيف وابنه".

الأكثر قراءة