عندما نسرف في «أكل» الماء «2»
تحدثنا في المقال السابق عن التحديات التي تواجه الاستهلاك الزراعي عالمياً والتي أدت إلى احتلاله المركز الأول كأكبر قطاع مستهلك للماء من تقلص في مساحات الأراضي الزراعية إلى ازدياد في الطلب نتيجة الزيادة السكانية وتغير العادات الغذائية وانعدام في كفاءة استخدام الماء زراعيا. واليوم سنتحدث عن هذا القطاع من محورين أساسيين: الأول هو أين يتم استهلاك كل هذا الماء في المجال الزراعي؟ والثاني: كيف يمكن أن نقلل من هذا الاستهلاك من دون الإضرار بما يسمى "الأمن الغذائي"؟
للحديث عن المحور الأول من المهم البدء بالمعلومة القائلة إن كل سعرة حرارية يتناولها الإنسان تتطلب لترا واحدا من الماء لإنتاجها. فإذا افترضنا أن استهلاك الإنسان في المتوسط من الغذاء يحتوي على ثلاثة آلاف سعرة حرارية فإننا نكون قد استهلكنا ثلاثة آلاف لتر من الماء لإنتاج هذا الغذاء لشخص واحد. لاستيعاب هذا الرقم أكثر فإن الإنسان العادي يحتاج إلى شرب خمسة لترات من الماء يوميا كحد أقصى. أي أن الإنسان العادي "يأكل" من الماء 600 ضعف بقدر ما يشرب!
المقصود بالاستهلاك الزراعي عموماً هو استخدام المياه لإنتاج المحاصيل الزراعية المختلفة أولاً وتربية الماشية وما تستلزمه من أعلاف وما تنتجه من ألبان ثانيا، أي ببساطة استهلاك نباتي وآخر حيواني.
القطاع النباتي يمثل زراعة المحاصيل ــــ سواء الفواكه أو الخضراوات أو الحبوب ـــ غير المرتبطة بالأعلاف. هذا القطاع يستهلك في المجمل ماء أقل فمثلا إنتاج كيلو جرام واحد من الأرز يستهلك قرابة ثلاثة آلاف لتر من الماء، وإنتاج كيلو جرام واحد من القمح يتطلب استهلاك 1300 لتر من الماء، في حين يستهلك إنتاج كيلو جرام واحد من البطاطس نحو 625 لترا من الماء.
القطاع الحيواني "الأنعام والطيور" ـــ وما يترتب عليه من زراعة أعلاف ـــ يستهلك 45 في المائة من الماء الزراعي وهو في ازدياد مطرد. المفاجئ أن الماء المستهلك لشرب الحيوانات وإنتاج اللحوم وتعليبها لا يمثل سوى جزء بسيط من هذه النسبة. أما الغالبية الساحقة فهي لزراعة الأعلاف الضرورية لهذه الماشية. فإنتاج كيلو جرام واحد من لحم البقر يستهلك 15500 لتر من الماء، في حين إنتاج كيلو جرام واحد من لحم الماعز أو لحم الدجاج يتطلب استهلاك أربعة آلاف لتر من الماء. الاستهلاك المائي يشمل أيضا منتجات الألبان، فإنتاج كيلو جرام واحد من الجبنة يحتاج إلى خمسة آلاف لتر من الماء في المتوسط.
من هنا نرى أهمية نمط الغذاء السائد في منطقة ما على الاستهلاك الزراعي للماء، فالغذاء الذي يعتمد على الجانب النباتي يستهلك قدراً أقل من الماء من الغذاء المرتكز على العنصر الحيواني. في السابق كانت المكونات الأساسية للوجبة الغذائية في أغلب المجتمعات والدول نباتية الأصل "أرز وخضراوات وفواكه وحبوب". لكن ارتفاع مستوى المعيشة والتطور الحضري Urbanization غير المسبوق أدى إلى تغير الوجبة الغذائية لتحتوي على لحوم في المقام الأول.
كانت هذه نظرة سريعة جداً على وجوه الاستهلاك الزراعي وتبيان أهمية نوع الغذاء على كمية الماء المستهلك. الآن سنتحدث عن بعض المقترحات للتقليل من كمية الماء المستهلك زراعيا عالميا. هناك العديد من مقترحات الخبراء التي لن يتسع المجال لذكرها للأسف "سنتحدث بالتفصيل عن الاستهلاك الزراعي محليا في مقالات لاحقة".
أولا: الماء المستخدم في الزراعة عالميا لري المحاصيل وسقيا الماشية يأتي من مصدرين رئيسين: الأول مياه الأمطار مباشرة ـــ أو المياه المختزنة في الطبقة العليا من التربة ـــ وهو ما يسمى بالمياه الخضراء ـــ والثاني المياه الجوفية والسطحية. يقدر الاستهلاك الزراعي للماء عالميا بـ 7.130 كم مكعب سنويا ــــ معرفة مقدار الاستهلاك الزراعي للماء، كما ذكرنا مهمة شبه مستحيلة للصعوبة البالغة في مراقبة كميات الماء التي يتم سحبها من جميع الآبار، الأرقام المستخدمة هنا وفي أغلب المصادر هي تقديرات فقط. خمس هذا الاستهلاك يأتي من المياه الجوفية أو السطحية في حين يأتي الباقي ـــ 80 في المائة ــــ من الأمطار. لهذا يبدو منطقيا أن يتم تركيز الزراعة في المناطق التي تعتمد على مياه الأمطار لإنتاج أكبر محصول ممكن من المنتوجات الزراعية والحيوانية. الاعتماد على المياه الجوفية ـــ أو المياه الزرقاء كما تسمى ـــ غير مجد اقتصاديا في كثير من الأحوال، حيث تكون مياه الأمطار في الغالب غير كافية لتعويض الماء المستهلك زراعيا.
في المنطقة العربية وبسبب قلة الأمطار فإن نسبة الأراضي الزراعية التي تسقى من المياه الجوفية أو الأنهار في ازدياد ــــ تبلغ النسبة حدود النصف في السعودية وترتفع إلى حدود 60 في المائة في العراق وقرابة 70 في المائة في مصر، وهو ما يضع ضغطا كبيرا على مصادر الماء ــــ الشحيحة أصلا ــــ لمواجهة الطلب الزراعي المتنامي.
ثانياً: وإن كان لابد من استخدام مياه الآبار أو الأنهار في سقيا المزارع فينبغي تحديد خريطة زراعية واضحة ــــ وتشتد الحاجة إليها في الدول الفقيرة مائيا كالدول العربية ــــ للمحاصيل التي تتم زراعتها توضح فيها نوعية المحاصيل وأهميتها وأماكن وتوقيت زراعتها. فمن غير المنطقي أن يتم هدر آلاف الأمتار المكعبة من الماء لإنتاج القليل من أعلاف الحيوانات في بلد صحراوي مثلاً. كذلك ينبغي الترشيد واستخدام الطرق الحديثة للتقليل من هدر المياه وهو للأسف ما يغيب في دول المنطقة الزراعية. فالهدف هو الإنتاج بأقل قدر ممكن من المياه أو ما يعرف بالمصطلح الإنجليزي More Crop per Drop.
ثالثا: وهذا مناسب للدول الغنية مادية، الفقيرة مائيا كالمملكة ودول الخليج، وهو الاستثمار الزراعي خارجياً في الدول التي تتمتع بوفرة مائية كالسودان وجمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق وجنوب شرق آسيا وفي هذا حفاظ على الأمن المائي من دون الإخلال بالأمن الغذائي.
من المطلوب تدارك الأمر وإعادة النظر في استخدام المياه بشكل أمثل وخاصة في المجال الزراعي. فالطلب على المياه في ازدياد كبير بسبب الزيادة السكانية وتطور مستوى المعيشة وانحسار الأراضي الزراعية وقلة كفاءة استخدام المياه بشكل عام.
لا أمن غذائيا من غير أمن مائي.