الوضع المائي في السعودية «2» .. ماء قديم جدا
عند سؤالك أي شخص عن المصدر الأساسي للمياه في السعودية، فإن هناك احتمالا كبيرا في أن تكون الإجابة: مياه البحر المحلاة. وهذا متوقع لسببين: الأول أن أكثر من نصف مياه الشرب في المنازل تأتي من محطات تحلية مياه البحر "والإنسان في الغالب لا يدرك إلا المياه التي يستهلكها مباشرة في منزله". أما السبب الثاني فهو تبوُّء المملكة مركز الريادة عالميا في كمية المياه المحلاة من البحر. الحقيقة أن هذه الإجابة خاطئة تماما، مياه البحر المحلاة لا تمثل أكثر من 6 في المائة من مجمل المياه التي يتم استهلاكها سنويا. المصدر الأساسي لمياه الشرب في السعودية كان ولا يزال المياه الجوفية.
تشكل هذه المياه الجوفية ــــ بشقيها الضحل والعميق ــــ ما يقارب الـ 86 في المائة من مجمل المياه في المملكة وفق بعض الإحصائيات. تأتي المياه السطحية ثانيا بنسبة 7 في المائة ثم مياه البحر المحلاة بنسبة 6 في المائة، وأخيرا مياه الصرف المعالجة بنسبة 1 في المائة. عالميا تمثل المياه الجوفية نسبة 18 في المائة من مصادر المياه، في حين تحتل المياه السطحية الريادة بنسبة 73 في المائة، أي أن الترتيب محليا هو عكس الترتيب العالمي.
عادة ما يتم تقسيم مصادر المياه إلى مصادر تقليدية "وهي المياه الجوفية والمياه السطحية كمياه الأنهار الأودية" ومصادر غير تقليدية "وهي مياه البحر المحلاة ومياه الصرف المعالجة". لكن هذا التصنيف لن يكون ذا فائدة عند الحديث عن خطورة الوضع المائي محليا. هنا سنقوم بتصنيف مصادر المياه في السعودية إلى مصادر متجددة "وهي مياه غير ناضبة يتم تعويض المستهلك منها عن طريق مياه الأمطار مثلا" ومصادر غير متجددة "آيلة للنضوب يوما ما بسبب صعوبة تعويض ما أخذ منها". المصادر المتجددة للمياه محليا هي مياه البحر المحلاة، مياه الصرف المعالجة، المياه السطحية "المختزنة غالبا خلف السدود" والمياه الجوفية الضحلة "التي تتم تغذيتها عن طريق الأمطار". أما المصادر غير المتجددة فهي المياه الجوفية العميقة، وهي ما سنتحدث عنه اليوم.
تمثل المصادر المتجددة في السعودية ما نسبته 35 في المائة فقط من مجمل المياه المستخدمة. وهكذا فإن مصدر المياه غير المتجدد وهو المياه الجوفية العميقة يمثل 65 في المائة من مجموع المياه المستخدمة محليا ـــ بعض المصادر تقدر هذه النسبة في حدود الـ 50 في المائة. وهكذا تتضح ملامح الصورة القاتمة للوضع الحالي وتتبين أهمية تقليل الاعتماد على المياه الجوفية غير المتجددة وأهمية ترشيد استخدام المياه عموما. فالاستمرار في الاعتماد على مصدر ناضب ليس بحل مستدام ولا هو خيار استراتيجي سليم. التوسع غير المسبوق وغير المراقب بشكل دقيق في الزراعة هو السبب الرئيس خلف الاستنزاف الكبير للمياه الجوفية. مياه الشرب ــــ القطاع الثاني من حيث كمية الطلب ـــ تأتي من مياه التحلية والمياه السطحية بشكل رئيس.
بداية، من أكبر التحديات التي تواجه أي باحث في السعودية ـــ وخصوصا في المجال المائي ـــ هي غياب الأرقام والإحصائيات العلمية الدقيقة والحديثة. وجود هذه المعلومات ليس مهما للباحث فحسب بل ولمتخذ القرار. من ذلك عدم وجود أرقام دقيقة لمجموع المياه الجوفية في السعودية. دراسة قديمة قامت بها جامعة الملك فهد للبترول والمعادن قدرت مجمل المياه الجوفية بـ 36.000 كيلومتر مكعب، في حين قدرت دراسة أخرى قامت بها إحدى الشركات الهندسية ذات الكمية بـ 2.175 كيلو متر مكعب.
مجموع المياه الجوفية عموما ليس ذا أهمية بالغة ــــ حاليا على الأقل ـــ لسبب بسيط وهو أن استخراج مياه على أعماق سحيقة قد لا يكون مجديا تقنيا ولا اقتصاديا. وعليه فإن الأولى معرفة الكميات المختزنة على الأعماق القريبة والمتوسطة. أطلس المياه قدر المياه الجوفية المختزنة على أعماق أقل من 100 متر بـ 258 كيلو مترا مكعبا. وزارة التخطيط من جهتها ــــ عبر خطة التنمية الرابعة ـــ قدرت المياه الجوفية على أعماق أقل من 200 متر بـ 377 كيلو مترا مكعبا. أما وزارة الزراعة والمياه ــــ سابقا ـــ فقدرت المياه الجوفية على أعماق أقل من 300 متر بـ 462 كيلو مترا مكعبا. الدراسة التي قامت بها جامعة البترول ــــ التي أشرنا إليها سابقا ـــ قدرت المياه الجوفية المجدي استخراجها اقتصاديا ـــــ يختلف تقدير هذا العمق من مصدر لآخر ـــ بـ 870 كيلو مترا مكعبا. الاختلاف بين هذه الأرقام نتيجة اختلاف العمق مفهوم، لكن لا تزال هناك حاجة ماسة إلى دراسات دقيقة لجميع مناطق المملكة لتحديد كمية ونوعية المياه الجوفية فيها.
هذه المياه الجوفية في المملكة العربية السعودية مختزنة في تسعة خزانات جوفية طبيعية Aquifers تحتوي على ما يقارب ثلثي المياه الجوفية المقدرة وتقع في شمال ووسط وشرق المملكة. بعض هذه الخزانات الجوفية أيضا مشترك مع دول الجوار مثل تكوين الساق وتبوك المشتركين مع المملكة الأردنية وهو ما يشكل تحديا إضافيا. في حين يوجد الثلث الباقي في خزانات ثانوية أصغر حجما. هذه المياه تكونت من آلاف وأحيانا عشرات الآلاف من السنين، ولهذا تسميها بعض المصادر بالمياه الأحفورية عوضا عن المياه غير المتجددة.
خلاصة القول إنه يجب عمل دراسات دقيقة وشاملة لكميات ونوعيات المياه الجوفية محليا. لكن الأهم هو وقف الاستنزاف المستمر لهذه المياه. لا يمكن أن نستمر في الهدر المائي الحالي ــــ خاصة في المجال الزراعي ـــ لمصدر الماء الأساسي وغير المتجدد في البلد. فعند نضوب هذا المصدر ـــ وهو ناضب لا محالة إذا استمر الاستنزاف الحالي ـــ سيتحول الوضع المائي السيئ إلى مأساوي.