«أرامكو».. صناعة تاريخ اقتصادي جديد
أيا كان القرار الذي ستتخذه المملكة حيال طرح جزء من شركة “أرامكو” للاكتتاب، وأيا كان شكل هذا الاكتتاب جزئيا أو كليا.. من المصب أو من المنبع.. فمجرد أن أطلق الحديث عن هذه المسألة، دخل العالم أجمع مباشرة في حالة من الترقب لمثل هذه الخطوة التاريخية الكبرى. والحق، أنها ستكون تاريخية وكبرى، لأنه لم يسبق مثيل لها، لأن “أرامكو” تمثل ما تمثله وتملك ما تملكه، وتؤثر ما تؤثر، في نطاق اختصاصها وحراكها المحلي وتبعاته الدولية ككل. الجميع ينتظر دون استثناء، لاسيما أولئك الذين يراقبون الأسواق العالمية، والكل ينظر أساسا إلى “أرامكو” كعملاق غير متكرر، بمعنى كيانها لا يشبه كيانا آخر سواء في قطاع الطاقة، أو في نطاق حجمه الهائل. إنها “أرامكو” التي ترسم منذ عقود الخطوط الرئيسة للخريطة النفطية العالمية.
ولأن “أرامكو” ليست فقط مؤسسة أو شركة كبرى عادية تستهدف الربح والخسارة والنمو، بل هي مؤسسة لها كل المزايا السابقة، إلى جانب دورها في رسم سياسات سلعة تبقى محورية على الساحة العالمية، بصرف النظر عن أي تحولات أو متغيرات في أسعارها. فطاقة الوقود الأحفوري باقية لعقود طويلة مقبلة، رغم التحول الناشط على صعيد تدعيم مسيرة الطاقة البديلة، يضاف إلى ذلك، أن “أرامكو” نفسها شركة هائلة ولكنها مرنة، تستطيع أن تتكيف مع ما هو مطروح حالياً على الساحة’، وما قد يطرح لاحقا. أي أنها تحاكي المستقبل في كل الأوقات، تلك التي تتسم بالأزمات أو الانفراجات، كما أنها مؤسسة مفتوحة على أي شيء يخدم قطاع الطاقة من خلال تحقيق أكبر قدر من الفوائد لها وللقطاع. إنها أكبر من مؤسسة. ولعل التوصيف الأمثل لها ليس أقل من كيان.
“أرامكو” الكيان الاستراتيجي الدائم، تستطيع ببساطة أن تحتل المركز الأول في قائمة كل الشركات المدرجة حول العالم، من حيث قيمتها، وما تمثله من أهمية على الساحة الدولية. فإذا كانت شركة “أبل” الأعلى قيمة على الإطلاق (بحدود 530 مليار دولار)، فإن التقييم المبدئي لـ “أرامكو” ليس أقل من 1245 مليار دولار. هذا ليس خبرا، ولكنه معلومة معروفة للجميع، لاسيما أولئك المختصون في الأسواق المالية والبورصات. لا شك في أن الإدراج المحلي لـ “أرامكو” سيقود تلقائيا إلى إدراج عالمي لها. فالأسواق العالمية تنتظر ولم تخف حماستها لمثل هذه الخطوة، كما أن الإدراج العالمي يتوافق في الواقع مع قوة وحجم وسمعة ومكانة هذا الكيان الاستثنائي الضخم.
الإدراج الذي تم الحديث عنه، لن يتم بين عشية وضحاها، لأسباب عديدة، في مقدمتها حجم الكيان نفسه وطبيعته. ومع ذلك بات الحديث اليومي للأسواق الإقليمية والعالمية، بل لا يمر يوم إلا وهناك شيء عن هذه الخطوة التي لم تتخذ بعد. ومرة أخرى، هذا أمر طبيعي. جهة تمتلك احتياطات نفطية ثابتة تبلغ أكثر من 260 مليار برميل أو ما يعتبر خمس نفط العالم، إضافة إلى احتياطي من الغاز يصل إلى 283 تريليون قدم مكعبة، أو رابع أكبر احتياطات غازية في العالم. وتشغل أكثر من 56 ألف شخص، ولديها أسطولها الخاص من الناقلات العملاقة، وشبكة من المصافي.. نقول جهة بهذا الشكل، كيف لا تصنع عاصفة من الحديث والتحليل والتوقعات فور الإعلان عن وجود نية ما لإدراج جزء منها في السوق. مع الإشارة إلى أنها تدير في السعودية أكثر من 100 حقل نفطي وغازي.
الجميع يتنظر ويترقب، للأسباب السابقة، إضافة إلى أن جاذبية “أرامكو” للمستثمرين والباحثين عن الحصول على حصة ما فيها، أكبر بما لا يترك مجالاً للمقارنة من جاذبية بقية المؤسسات النفطية الكبرى الأخرى، بما فيها “برتيش بتروليوم” و”شل” و”تكسكو” وحتى “شيفرون” وغيرها. والسبب الرئيس في هذه الجاذبية أن عمليات الاستخراج التي تقوم بها “أرامكو” أسهل وأقل تكلفة مما هي عليه مع بقية الشركات المعروفة. دون أن ننسى، الاستقرار الذي تتمتع به “أرامكو” في حين ليس هناك استقرار مضمون لشركات نفطية كبرى أو حتى غير نفطية. فعلى سبيل المثال، تظل شركة مثل “أبل” في دائرة التهديد المستمرة، لأنها تتعرض للتنافس الذي لا يتوقف من حيث المنتجات من شركات أخرى مماثلة. وفي بعض الأحيان تقدمت هذه الشركات على “أبل” في منتج ما.
الحال ليس كذلك بالنسبة لـ “أرامكو”. فحتى طرح 5 في المائة فقط في الإدراج الأولى من هذا الكيان الهائل، يحدث ضجة كبيرة في الأسواق، علما بأن المملكة لن تترك أبدا حصتها التي تمكنها من السيطرة على “أرامكو”، فالمسألة هنا لا ترتبط فقط بالاستثمار، بل أيضا بالمكانة الوطنية. كل ذلك، يدخل في إطار انطلاق الاقتصاد السعودي قبل عدة سنوات باتجاهات مختلفة، تضمن مزيدا من الاستدامة، والأهم مزيدا من التنوع في العوائد الوطنية. في الواقع أطلقت المملكة هذه المسيرة من أجل إنشاء اقتصاد جديد، يعتمد على الإنتاج والخدمات والتصنيع والسياحة والتعدين والبتروكيماويات وكل ما هو متوافر في البلاد. وهناك إمكانات كثيرة متوافرة بالفعل، تتطلب إطلاق مشاريع جديدة لاحتوائها.
إدراج جزء من “أرامكو” هو خطوة من الخطوات نحو اقتصاد متحول، فتح الأبواب لكل ما يسهم في زيادة الدخل والابتكار والاستثمار. فالموارد المالية التي ستنجم عن طرح “أرامكو” في السوق، هي بحد ذاتها ستكون جزءا من التمويل اللازم لاستكمال بناء الاقتصاد السعودي الجديد، الذي يستهدف نموا لا يتوقف، واستغلال الإمكانات العملية الحقيقية، وتوفير مزيد من فرص العمل. مع الإشارة إلى أن التشريعات التي اتخذت في السنوات القليلة الماضية، تدعم هذا التحول.
ربما يمثل إدراج “أرامكو” مرحلة اقتصادية تاريخية على الساحة العالمية والمحلية، لكن التجديد ومخططات التنمية التي أطلقت في المملكة منذ سنوات، ورصد الأموال اللازمة لذلك، تبقى الممثل الرئيس لهذا التحول التاريخي، الذي يستهدف أول من يستهدف الإنسان في حاضره ومستقبله.
كاتب اقتصادي