مكانة البحث العلمي من «رؤية 2030»
على هامش الحديث عن الرؤية الوطنية الجديدة، اعترض عضو هيئة التدريس والباحث النشط الحديث بسؤاله المتعجب: "ألم تر كيف سقط البحث العلمي من "رؤية 2030"؟ لم تذكر كلمة البحث العلمي ولو لمرة واحدة! سيتم إيقاف الصرف على أحد أهم مرتكزات التنمية!" جاوبته بأن عبارته تحمل مغالطتين أساسيتين، الأولى أن البحث العلمي موجود مثله مثل عديد من التطبيقات المحورية ضمن ثنايا الرؤية، والآخر أن الرؤية لا تعرض قوانين إدراج الميزانيات القادمة ولا تحدد شروط الصرف على مختلف البنود، وإن كانت تضع الفلسفة العامة للانتقال من وضع سابق إلى وضع جديد ومختلف.
تحدثت "الرؤية" عن مجالات محددة ستنال قدرا مضاعفا من التركيز في السنوات القادمة، هذا التركيز يعني تحديدا التعامل مع جوانب معينة والعمل على تقويتها، وأخرى محددة يتم تجاهلها، إضافة إلى التزامات واضحة ومؤشرات أداء محددة يتم الإفصاح عنها وإخضاعها لمراقبة الجمهور بشفافية كاملة. من هذه المجالات على سبيل المثال توطين الصناعات العسكرية وتنمية قطاع التعدين وبناء سوق للطاقة المتجددة. نصت وثيقة "الرؤية" كذلك على توطين نسبة كبيرة من خطوات الوصول إلى هذه الأهداف، ومن ذلك خطوات البحث والتطوير. وهذا طبيعي، لن نتمكن من البقاء والنماء إلا بالبحث والتطوير، وسنام ذلك البحث العلمي.
لا يمكن عزل البحث والتطوير بمفهومه الشامل عن البحث العلمي، ولكن الفرق في أسلوب التعاطي هنا، سيمنح البحث العلمي بموجب الرؤية الجديدة الدعم بطريقة مستهدفة. بكل بساطة، لن يمنح الباحث الأموال للبحث في الموضوع الذي يريد، ولن تردد الجامعات عبارات مثل "الشراكة مع القطاع الخاص" دون وجود حوافز حقيقية على أرض الواقع، وإنما ستعلن الحاجات البحثية التي تخدم الرؤية بطريقة مباشرة وستمنح فرصة المشاركة للباحثين والمراكز البحثية، الجامعية وغير الجامعية، وكلٌ وشطارته! هذا يعني أن الشراكات أصبحت أمرا محتما على الباحث المسؤول الذي يؤدي دوره المهم في البحث العلمي، تلك المرحلة الدافعة والموجهة للاكتشاف والفهم والتطوير. بدلا من أن ننتظر من البحث العلمي أن يحرك البحث والتطوير، سيقوم البحث والتطوير بتجنيد البحث العلمي للحصول على النتائج والاستفادة من إمكاناته.
الانتقال من مفاهيم الاقتصاد الريعي إلى الديناميكيات التحفيزية المنتظرة والمتوقعة في أساليب تطبيق الرؤية يشكل تغييرا ثقافيا يشمل حتى التعامل مع الميزانيات السنوية. لن ينتظر أحد ما يخصص من أموال ليقرر حجم وشكل أبحاثه للعام المقبل. يظل تأثير الميزانية جوهريا وموجودا ولكن يفترض أن تعمل بطريقة مختلفة، ولهذا من المتوقع أن تختلف طريقة تبويبها وتصنيف بنودها وحتى طريقة المحاسبة والمتابعة للبنود داخل الأجهزة الحكومية.
تدعم الرؤية الجديدة البحث العلمي بشكل أفضل من السابق. تشكل الجامعات والمراكز البحثية الأكاديمية قمة الهرم البحثي وتقود البحث والاكتشاف على المستوى الوطني. ولكن حصر الحوافز داخل المؤسسات الجامعية ـــ مثل ربط البحث بالترقيات ـــ يصنع المزيد من العزلة، التي تهمش من قيمة البحث العلمي، فهو أساسا من المجتمع إلى المجتمع. ولكن تحديد مجالات محددة ثقافية وصناعية وصحية تتطلب مساندة واضحة ومؤكدة في البحث والتطوير، يجعل دور القائمين على البحث العلمي أكثر وضوحا وأفضل سببا.
هذه التغييرات تتطلب تحسين كل الأطراف لطرق التواصل، يجب على الكوادر البحثية أن تبدأ بفهم لغة الشركات، وأن تفتح النوافذ نحو ما يدور خارج الحرم البحثي بطرق أكثر فعالية. ويجب على الشركات كذلك أن تصبح أكثر إيمانا بأهمية البحث والتطوير وأهمية البحث العلمي لدعم الدورة الابتكارية في منشآتهم. بالمناسبة، لا يقتصر الأمر على الصناعات، فدعم الادخار مثلا يتطلب المزيد من اكتشافات السلوكيات المالية المحلية التي لن يقوم بها إلا الباحثون الاجتماعيون. وهذا ينطبق كذلك على كل الجوانب الثقافية الأخرى التي نصت عليها الرؤية.
ستكون العبارات الأخيرة بلا قيمة إذا لم تحز على آلية تنفيذ غنية بالمحفزات والضوابط. وهذا تحديدا ما يصنع الفارق بين طرح مثل هذه العبارات في السابق وطرحها اليوم، حيث ننتظر جميعا خروج مؤشرات الأداء التي تلتزم بها الجهات الحكومية المقدمة للخدمات والأخرى المشرفة على مقدمي الخدمات من القطاع الخاص؛ لكي يبدأ التفاعل بآلية تنفيذ ملائمة enforcement mechanism تصنع لنا النتائج المطلوبة. وهذا يحملنا إلى تغيير ثقافي وتحور في الوعي يتطلب في حد ذاته أيضا جهودا بحثية علمية، لفهمه ودفعه في التوقيت المناسب والاتجاه الصحيح.