تعدد الأدوار .. وقيمة الأراضي

تحاول الدول أن تتأقلم مع النمو المستمر لسكانها في المناطق الحضرية ولا سيما المدن الكبيرة والمتوسطة، وملخص الطرق التي اعتمدتها التجارب السابقة لمحاولة استيعاب النمو السكاني هي: 1) التوسع الأفقي للمدينة ومحاولة إيجاد مراكز جديدة للمدينة تجذب السكان نحوها، 2) بناء مدن وقرى جديدة كليا لتستوعب النمو السكاني الكبير ونقل القوى العاملة لها وهذا الأسلوب غالبا ما تتبعه الدول النامية، 3) رفع الكثافة السكانية عن طريق استيعاب عدد أكبر من الناس والنشاطات التجارية والخدمية بالسماح برفع الكثافة العمرانية والإنشائية في منطقة معينة. وما سأقوم بالتفصيل فيه هي الطريقة الأخيرة، التي تركز على جدوى رفع الكثافة السكانية وما سلبياتها وإيجابياتها بشكل مختصر من نواح متعددة سواء كانت اقتصادية أو اجتماعية أو بيئية ولعل المقام لن يسمح بالتفصيل في كل ناحية لكن سأحاول ذكر ما يتناسب مع مجتمعنا وبيئتنا وتفنيد بعض الآراء والأحكام المسبقة عن جدوى "زيادة الأدوار" كما هو متعارف عليه في سوقنا السعودية.
في دراسة حديثة لمعهد التطوير العمراني في أوروبا، تم بحث جدوى رفع الكثافة السكانية عن طريق استعراض الممارسات والتجارب التاريخية والحالية في هذا المجال، وجدت الدراسة أن أهم الأسباب التي دعت متخذي القرار إلى التوجه نحو زيادة الكثافة السكانية هي: النمو السكاني العالي للمدينة، تغير التفضيلات والرغبات من حيث المواصفات والتصميم، خاصة للجيل الجديد الذي يفضل المساحات الصغيرة ذات التصميم الحديث، الذي يلبي رغباتهم بتكاليف مناسبة، كذلك محاولة جذب الأعمال والخدمات إلى المناطق ذات الكثافة السكانية للرفع من مستواها وإمكاناتها، ومن ناحية بيئية محاولة جعل السكان أكثر اعتمادا على النقل العام وتقليص استخدام السيارة بل جعل المشي واستخدام الدراجة من الخيارات المفضلة للتنقل بين الأماكن المختلفة لقربها، وغيرها من الأهداف الثانوية التي لا يتسع المقام لذكرها.
أما من حيث الإيجابيات والسلبيات فكثيرا ما نسمع أن السماح بتعدد الأدوار سيؤدي إلى انخفاض قيمة الأرض وهذا بالطبع افتراض غير صحيح ولم يثبت بالتجربة بل ما أثبتته التجارب أن ذلك يؤدي إلى ارتفاع قيمة الأراضي خاصة غير المطورة منها، التي تعانيها مدننا الرئيسة حاليا، لكن تعدد الأدوار قد يخفض تكلفة الأراضي بالنسبة للوحدة السكنية وهذا كذلك غير مضمون، ولا سيما إن أردنا تطوير بيئة صحية ومتكاملة الخدمات وهذا يعني مثلا زيادة المسطحات الخضراء والاعتناء بالنقل العام وجعل المنطقة مناسبة للمشي واستخدام الدراجة والحرص على اتباع اشتراطات المباني الخضراء، ولذا فإن قيمة تطوير مثل هذه البيئة المميزة قد تزيد من تكاليف الوحدة السكنية نظرا لاستقطاع الخدمات مساحة أكبر من الأراضي وهذا الاستقطاع سيؤدي إلى أن تتحملها الوحدة السكنية في النهاية، وهذا الاعتناء بالبيئة المحيطة بالوحدة السكنية لم يعد ترفا بل أصبح حاجة ملحة وفقا لمعايير التخطيط الحضري الحالية، وذلك بعد التجارب السيئة التي عانتها مشاريع الإسكان الحكومي خلال فترة الخمسينيات والستينيات الميلادية، التي كانت تهتم فقط ببناء أكثر ما يمكن من وحدات سكنية في مناطق محصورة لتتحول هذه المناطق إلى كتل خرسانية كئيبة يسكنها ذوو الدخل المحدود ولا توجد فيها أي مقومات الحياة الصحية والخدمات المناسبة التي تجذب مستويات مختلفة من شرائح المجتمع للسكن فيها، فتحولت إلى مناطق تكثر فيها الجريمة وانحدرت قيم العقارات فيها وأضحت مناطق طاردة، ولذلك لا بد من الاهتمام بالبيئة المحيطة بالمناطق ذات الكثافة السكانية والحرص على جودتها ومحاولة إدخال العناصر التنموية التي تضمن استدامة هذه المشاريع على المدى الطويل بشكل يعزز من قيمة المنطقة على المستوى الاستثماري ويجذب الساكنين لها على المدى الطويل. ومن إيجابيات ارتفاع الكثافة السكانية جذب رؤوس الأموال للاستثمار في البنية التحتية والخدمات المساندة مثل مشاريع الصحة من مستشفيات ومستوصفات وكذلك مشاريع التعليم العام والعالي إضافة إلى المشاريع الاجتماعية والثقافية كونها أكثر جدوى لاتساع الشريحة المستهدفة بهذه المشاريع، في المقابل هذه الكثافة السكانية قد تكون عاملا في ارتفاع أسعار السلع والخدمات وكذلك الوحدات السكنية بسبب ارتفاع الطلب عليها.
الخلاصة، رفع الكثافة السكانية والعمرانية يحتاج إلى دراسة وفهم للبيئة المحيطة ومدى الحاجة إليها، كما أنها حل ضمن حلول متعددة لرفع كفاءة استخدام الأراضي، ومن المهم الحرص على تخطيط بيئة حضرية نموذجية مستدامة عن طريق إشراك مختصي التخطيط الحضري لوضع معايير واشتراطات رفع الكثافة السكانية بشكل يوافق بيئتنا المحلية، والمهم ألا يتم تعميمها حاليا لأن ذلك سيؤدي إلى ارتفاع قيمة الأراضي غير المطورة، لكن من الممكن أن يستثنى بعض مشاريع التطوير الجادة والعازمة على البدء بزيادة الكثافة السكانية ومن الممكن أن يدرس مركز إتمام في وزارة الإسكان مدى إمكانية إعطاء هذه الميزة لمطور من عدمها بشرط الوفاء بمعايير التطوير الحضري الحديثة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي