مستقبل جزالة إنتاج البترول الصخري
عندما جيشت أمريكا أكثر من 1500 حفار مع كم هائل من المعدات الثقيلة المساندة وشغلت عشرات الألوف من الأيدي العاملة المدربة وحفرت ما يزيد على مائة ألف بئر لترفع إنتاجها من البترول الصخري إلى أربعة ملايين برميل، ظن كثيرون أن "الصخري" هو الدرة المفقودة. وألا مجاعة في عالم الطاقة بعد اليوم. وهو، وإن كان ذلك إضافة إنتاجية لا بأس بها، إلا أن "الصخري" بطبيعته الجيولوجية محدود الإنتاج ومكلف إلى درجة لا تمكنه من منافسة البترول التقليدي الرخيص، ولا تعوض إلا نسبة قليلة من نضوبه. وتوقيت إنتاج "الصخري" الأمريكي كان مناسبا عندما وصل سعر البرميل ما يقارب مائة دولار قبل سنوات وبلغ التقليدي ذروة الإنتاج، مع استمرار ارتفاع الطلب العالمي على مصادر الطاقة. وإمكانية إنتاج "الصخري" اقتصاديا في حدود معدل 50 إلى 80 دولارا للبرميل عند بدايته كانت ظاهرة أمريكية، كما سماها الكاتب الأمريكي دانيال يرقن. أي أنه من شبه المستحيل إنتاج البترول الصخري عند هذه التكلفة والكمية نفسها خارج أمريكا الشمالية، وهو ما شاهدناه على أرض الواقع خلال السنوات الماضية. فلم نسمع بإنتاج "الصخري" من أي دولة رغم صعود سعر بيع البرميل إلى ما فوق مائة دولار وحاجة الدول المعنية الملحة إلى الإنتاج والدخل المالي. باستثناء دولة الأرجنتين. فهي البلد الوحيد خارج أمريكا الشمالية الذي ينتج الآن كمية قليلة من البترول الصخري، ولا نعلم مقدار التكلفة. ونشك في أن الإنتاج الأرجنتيني اقتصادي إلا في حالة كون طبيعة تكوين البترول الصخري هناك يختلف عن "الصخري" الأمريكي المألوف. وقد لا تستطيع بقية الدول إنتاج البترول الصخري دون سعر 130 دولارا للبرميل فما فوق. والأسباب الرئيسية، كما ذكرنا في أكثر من مناسبة، جيولوجية ولوجستية. فالحفر في أمريكا أكثر يسرا للطبيعة الجيولوجية هناك والخبرة التي بلغت حفر ما يزيد بكثير على مليون بئر. وتوفر المعدات في أمريكا وتدني أسعار العقود والأيدي العاملة، نتيجة لذلك ساعد على تخفيض تكاليف الحفر إلى المستوى الذي ذكرناه آنفا. وسنتجاوز عن التسهيلات التي وفرتها الحكومة الأمريكية فيما يتعلق بالأمور البيئية ومنحتها لشركات الإنتاج تقديرا لمجهودها في خلق مئات الألوف من الوظائف المحلية.
وموجب هذا الطرح ما أعلنت عنه أخيرا وتنبأت به إدارة معلومات الطاقة الأمريكية حول مستقبل إنتاج البترول الصخري في أمريكا وخارجها خلال الـ 25 سنة المقبلة. وإدارة معلومات الطاقة هي المؤسسة الوحيدة التي تعنى بأمور إنتاج واحتياطي البترول والغاز الصخري في العالم. وقد سبق أن قدرت الاحتياطي العالمي بما يقارب 350 مليار برميل. وبما أن التقديرات المنشورة لم تشمل معظم دول الشرق الأوسط، مع وجود "الصخري" في أراضيها، خاصة دول الخليج، فقد يصل مجموع الاحتياطي العالمي إلى ما يزيد على 400 مليار برميل. أو ما يقارب نصف الاحتياطي "الحقيقي" وليس المعلن المتبقي من البترول التقليدي الذي ينتج حاليا 90 مليون برميل في اليوم. ولو كانت خصائص "الصخري" تشبه التقليدي وتكلفة وكمية إنتاجه قريبة منه لتوقعنا أن يكون إنتاجه، بعد انخفاض إنتاج التقليدي بعد 20 عاما من وقتنا الحاضر، ما يربو على 20 إلى 30 مليون برميل يوميا. لكن اسمعوا لما تقوله إدارة معلومات الطاقة الأمريكية، وهي الخبيرة بهذا الشأن، عن مستقبل إنتاج "الصخري". تتوقع الإدارة أن يصل إنتاج "الصخري" عالميا في عام 2040 ضعف الإنتاج في عام 2015 الذي كان عند مستوى 4.98 مليون برميل. أي سيبلغ إنتاج "الصخري" من جميع المنتجين، بما فيهم أمريكا، بعد 25 عاما 10.36 مليون برميل فقط، حسب رؤيتهم، وهم أهل الخبرة. نصيب أمريكا منها 7.1 مليون. والباقي، بموجب تقدير إدارة معلومات الطاقة من روسيا وكندا والأرجنتين. مع العلم بأن روسيا تمتلك أكبر مخزون صخري في العالم، في حدود 70 مليار برميل. ومع ذلك فلن يكون في مقدورها إنتاج أكثر من مليون برميل بعد 25 عاما، رغم حاجتها آنذاك الكبيرة إلى الإنتاج والمال. لكنها طبيعة "الصخري" هي التي تملي مقادير كميات الإنتاج، إلى جانب بطبيعة الحال توافر الإمكانات اللوجستية والمالية لدى أي دولة. وهنا تظهر أهمية تميز أمريكا في هذا المجال. ومن المؤكد أن إعاقة إنتاج البترول الصخري خارج أمريكا ليست التكنولوجيا التي في متناول الجميع، بل البنية التحتية من طرق ومرافق ووسائل نقل ومصادر مياه، إلى جانب الطبيعة الجيولوجية. هذا إذا سلمنا بوجود المال والتسهيلات البيئية. وجميعها عوامل مهمة قد يقف، عدم توافرها، عثرة أمام المضي نحو الإنتاج بكميات ذات مردود اقتصادي. والطرح نفسه، فيما يخص مستقبل إنتاج "الصخري" الروسي، قرأناه في أحد تقارير شركة البترول البريطانية قبل عامين. فقد تنبأت الشركة بوصول الإنتاج الروسي من البترول الصخري في عام 2035 ما يقارب 800 ألف برميل في اليوم، وليس بالملايين، وهي صاحبة احتياطي الـ 70 مليار برميل.
تكمن أهمية هذا الحديث في أن ما يعتقده أكثر المحللين من أن البترول الصخري سيحل محل التقليدي الرخيص الذي في طريقه إلى النضوب لا يعدو عن كونه ظنا وليس حقيقة. وأن تكلفته ستنخفض بفضل تقدم التكنولوجيا ويكون بالإمكان إنتاجه من أي موقع وبكميات كبيرة. هذا غير دقيق. نعم، ربما يطرأ نوع من تحسين الأداء مع الخبرة الطويلة وتخفض التكلفة قليلا، وهو أمر وارد. ولا بد من التذكير بأن تقدير احتياطي "الصخري" غالبا ما يكون عشوائيا لعدم توافر المعلومات الكافية. فقبل سنتين كانت إدارة معلومات الطاقة قد قدرت احتياطي البترول الصخري في وسط كاليفورنيا عند 13.7 مليار برميل. ولما بدأوا الحفر تبين لهم أن إنتاجه غير اقتصادي وخفضوا التقدير للكمية القابلة للإنتاج بنسبة 96 في المائة إلى 600 مليون برميل.