دور الدراسات المستقبلية في ظل عالم متغير
لا يزال الإنسان منذ القدم يحاول سبر أغوار المجهول وما يخشى منه، مقسما هذا المجهول إلى ثلاثة أقسام، نفسه في الحياة وبعد الحياة، والأرض باطنها وخارجها، وأخيرا الفضاء بكل أبعاده. سبر المستقبل ليس بضرب من ضروب الكهانة أو علم الغيب لأنه لا يعلم الغيب إلا الله ـــ سبحانه وتعالى.
يشير عبد الرحمن العكيمي في كتابه "الاستشراف في النص" "كثيرا ما يصبح الاستشراف ضرورة تفرضها متطلبات مرحلية كثيرة، ورغم ذلك لا توجد لدينا مراكز تستشرف المستقبل، وتدرسه في الوطن العربي كما يحدث في أمريكا وفي الغرب بشكل عام. فقد صدرت تقارير أمريكية تستشرف حالة المستقبل حتى عام 2020". إن قراءة الواقع واستشراف المستقبل سواء كان علميا أو إبداعيا فإنه يصبح مطلبا حضاريا. من هنا نرى أن ضرورة نشر الوعي به وبأساليبه ومبادئه وطرقه وأدواته أمر مهم جدا لنفهم جميع التحولات التي تدور حولنا ولا نقبع في مسرح الأحداث في الوطن العربي دونما حراك.
يقول الدكتور محمد عابد الجابري في كتابه إشكاليات الفكر العربي المعاصر "إن علم المستقبليات كما يطبق اليوم بالنسبة إلينا نحن شعوب العالم الثالث علم مخيف يبشر بالكارثة، والانحطاط والانقراض". ويضيف الجابري: "إن الانطلاق من هذا الحاضر الخاضع كذلك للهيمنة الإمبريالية اقتصاديا وسياسيا وعسكريا وأيديولوجيا لا يمكن أن يسمح له "علم المستقبليات" ولا لأي علم آخر يعترف بمعطيات الواقع الراهن كحقائق موضوعية نهائية". ومن هنا يجدر بنا إدراك أهمية الزمن وما نسميه هنا معادلة خط الزمن التي توضح علاقة الماضي بالحاضر والمستقبل وأن لها اتصالا وعلاقة ببعضها.
وللتاريخ دور فعال في الاستشراف بين أنماط مكانية وزمانية وموضوعية بعيد الحرب الكونية الثانية وهما: أولا "انفتاح مجال الدراسات التاريخية لتشمل جميع مناشط الحياة الإنسانية، ولم يعد منحصرا في جوانبها السياسية والعسكرية فحسب.
وعلى الرغم من كل هذه الإيجابيات فإن هذا النمط بتياراته الاستشرافية كلها فيه علة كبرى توجه الطرائق، وتستغل الوسائل، لأن أولئك الدارسين أبناء بيئتهم وثقافتهم، بغاياتها وأهدافها القريبة والبعيدة، فهم يكتبون تاريخ غيرهم بمفاهيم حضارتهم، ويقرأون ذلك التاريخ في ضوئها، لأن التاريخ لا تعاد كتابته وإنما تعاد قراءته، وللقارئ الباحث منظوره الموجه، ومفاهيمه المؤثرة، وغاياته المبتغاة، وأهدافه المرتجاة التي تلون القراءة".
إذا، فإن (التعلم من الماضي) + (العمل في الحاضر) = (تغيير المستقبل) وقد غاب هذا الإدراك الزمني عن كثيرين، وهذا ما تناوله أحد العلماء حيث يقول: "إذا كان الدعاة إلى العلمانية، أو دعاة التقدمية يكادون يلغون النظر في الماضي، فإن من الدعاة الإسلاميين فئة تكاد تلغي النظر إلى المستقبل وتعيش متقوقعة على الماضي واجترار ما فيه، والدوران في ساقيته، دون اهتمام كاف بمشكلات اليوم وتطلعات الغد، شعارهم ما ترك الأول للآخر شيئا".
من جهة أخرى، وانتقالا إلى الدور المؤسساتي العالمي، حيث حدد مشروع الألفية 15 تحديا تواجه البشرية وتشكل إطارا لتقييم المستقبل على المستويين المحلي والعالمي، وتتوقف تلك التحديات كل منها على الآخر: حيث إن تحسنا في أحدها يجعل من السهل تناول التحديات الأخرى، والجدل عما إذا كان أحد التحديات يفوق في أهميته التحديات الأخرى. ويذكر كتاب حالة المستقبل مثالا يفيد أن هذا الجدل يشبه الجدال حول ما إذا كان الجهاز العصبي البشري يفوق في أهميته الجهاز التنفسي.
هذه التحديات هي التنمية المستدامة والتغير المناخي، والمياه النظيفة، والسكان والموارد، والديمقراطية، والمنظورات طويلة المدى والالتقاء العالمي لتكنولوجيا المعلومات، والفجوة بين الأغنياء والفقراء، وقضايا الصحة، والقدرة على اتخاذ القرار، والسلام والصراع، ووضع المرأة، والجريمة المنظمة العابرة للحدود، والطاقة، والعلوم والتكنولوجيا، وأخيرا الأخلاقيات العالمية. وعلى الرغم من غياب غالبية مثل هذه المؤشرات في دول الخليج وجب أن نشير هنا إلى عدد من التجارب الحديثة التي ينبغي تشاركها والاستفادة منها والتي وردت في كتاب "حالة المستقبل" حول مؤشرات حالة المستقبل، حيث تم استخدام مؤشرات في دعم اتخاذ القرار الاستراتيجي المستقبلي. وتتجلى فاعلية استخدامها عند ارتباطها مباشرة بمجلس الوزراء أو مركز صنع واتخاذ القرار حيث إنه متغير بشكل دائم ورابط للعلاقات بين مختلف الفاعلين.