من يعطل التطوير في القطاع العام؟
من أهم المشكلات في القطاع العام في المملكة عدم الاستجابة للتغيرات في عالم الإدارة والمال وحتى التغيرات في الجزء الفني من أعمال المؤسسة الحكومية، استجابة تتسم بالوقت المناسب والطريقة المناسبة، وسبب هذا التأخير هو انهماك الموظفين في القطاع العام بالعمل وفقا للوضع الراهن لأنه أفضل ما يمكن، ويتم نقل الخبرات داخل العمل بين الموظفين حتى لو تضمنت تلك الخبرات أخطاء تراكمية سابقة، وحتى يتحول العمل من إدارة موارد لتحقيق هدف إلى الدفاع عن الوضع الراهن والإجراءات وحمايتها، فحماية ذلك الوضع الراهن وتلك الإجراءات تعني حماية الموظف لموقعه في الجهاز الحكومي. ويمكن تمثيل القضية بعملية تطوير حلقات من الفروض والقضايا التي يحيط بها الموظف طريقته في العمل وإجراءاته التي طورها وتناسبه وخبراته، ستكون هذه الفروض وهذه القضايا محل النقاش دائما قبل مناقشة تغيير العمل وتغيير الوضع الراهن، فهي خط الدفاع الأساس، أمام كل محاولات الإصلاح الجادة وتطبيق نماذج حديثة. هذه الدوائر المحكمة من الفروض والقضايا يتم نقلها من جيل إلى جيل ويتعاهدها الموظفون فيما بينهم وعادة ما يتم ترشيح مساعد المدير والمدير الخلف بناء على هذا. في نظري الشخصي ومن خلال تجربتي في ميادين عمل مختلفة فإن براعة القائد تبرز في اكتشاف إجراءات العمل الحقيقية والقاعدة الصلبة له، وتلك التي تمثل تطويرا لحلقات الدفاع عن المركز الوظيفي.
لعل أهم مؤشرات وجود حلقات الدفاع في وجه التطوير هو إخفاء أو اختفاء النص النظامي الأصلي الذي صدرت به قرارات تشريعية عليا بين تراكمات هائلة ومعقدة من نصوص لوائح داخلية أو تعاميم سرية لتنظيم سير العمل وذلك تحت مسميات القواعد التنفيذية وأهداف وخطط استراتيجية والخطط التنفيذية. ففي الجهات التي تسيطر عليها ثقافة الدفاع عن المركز الوظيفي تجد الحديث دائما يدور حول اللوائح الداخلية وأهداف مختلفة عن أهداف المشرع وفق مسميات ضخمة كاللائحة التنفيذية للنظام الأساسي، قواعد عمل وتنفيذ اللائحة، أهداف الخطة الاستراتيجية، المبادرات، وتحت ضغط الحديث عن هذه القواعد واللوائح والأهداف الاستراتيجية، تضيع النصوص الأصلية التي صدرت من الجهات التشريعية، بل قد يندثر النص الأساس ولا يكاد يعرف لا بين الموظفين أنفسهم ولا بين المواطنين. ولا أحد يعرف فعلا إلى أي درجة انحرفت اللوائح التي أصدرتها الجهة عن التشريع الأصلي. ومع تعاقب الأجيال في الوظيفة تتحول اللوائح إلى نصوص تشريعية لها قداسة مهما خالفت النص الأساس، والحديث عن المخالفة – إذا تجرأ أحدهم - ضرب من الفوضى في العمل، بل في كثير من المؤسسات يصبح المدير أو مجلس الإدارة مشرعا ولا أحد يعارض ذلك.
الجميع سيكون منهمكا في تطبيق اللائحة والخطة الاستراتيجية "المخالفة"، والجميع يتقرب للمجلس ورئيسه بإثبات حفظه لها، ومن يتحدث خارج هذا الإطار فهو في أحسن الأحوال نرجسي يريد أن يظهر نفسه من خلال خالف ما يعرف. لقد مررت شخصيا بتجارب في مؤسسات حكومية مختلفة وغيرها، ولا أحد فيها يريد أن يصدق بأنه لا يجوز لمجلس إدارتها التشريع، أو حتى تفسير اللائحة أو يقر خطة استراتيجية فيها ما يخالف، لا أحد يريد أن يسمع بأن أي لوائح تنفيذية أو خطط تصدر من هذا المجلس يجب ألا تضيف تشريعات أو حكما أو عقوبة إلا بنص التشريع الأساس، وأن ما يمكن العمل عليه هو مناقشة إجراءات التنفيذ فقط.
يجب على القائد الذي يريد أن يكتشف حلقات تعطيل التطوير، أن يعرف شخصية المديرين المساعدين له، ومديري الإدارات. ففي الإدارات التي يتحول فيها مدير الإدارة إلى «سوبرمان»، تأكد أن هناك حلقات تعطيل التطوير وهو يدافع عنها بنموذج «السوبرمان». فهذا المدير ومن خلال عمله الدؤوب المفرط يبعث برسالة مفادها أن العمل سينهار إذا توقف عن هذه البطولات، فهو وحده القادر على فهم وتطبيق اللوائح والنظام هو القادر على معرفة ما يستحق منها العمل وما يجب تعطيله، وهو دائما قادر على تحمل مسؤولية ذلك، في أحيان يغلف أسلوبه في العمل بالخطأ الاستراتيجي ومن خلالها يبث مخالفاته. دائما هو المسؤول ولا أحد يقلق، ومع الثقة المفرطة في هذه الشخصية الإدارية وفي أغلب الأحوال هو مخلص فعلا، تتجاهل الجهة وقيادتها العليا دراسة كثير من الإجراءات وتحليلها ونظاميتها ومدى الحاجة إلى تطوير العمل، فهذا النموذج مريح جدا للرئيس، فهو لا يأتي بمشكلة، فكل المشكلات محلولة، هذا «السوبرمان» لا يأخذ إجازة وليس له مساعد ولا نائب، وإذا وجد فهو في أحسن الأحوال مغيب عن العمل لا يحسن اتخاذ القرار. هذا «السوبرمان» هو من أخطر المعوقات وعادة ما تكتشف هشاشة العمل إذا تقاعد أو تم نقله.
من مؤشرات وجود حلقات تعطيل التطوير، اللوبي. وهو تجمع غير رسمي لموظفين ليسوا بالضرورة من القياديين لكنهم من قدامى المؤسسة أو جعل الأقل جزءا كبيرا منهم، وليس لعددهم أهمية بقدر ما لتأثيرهم على القرار، في أغلب الأمر فإن هذا اللوبي مكون من مديري المكاتب. عادة يصعب اكتشاف اللوبي المؤثر، وذلك لأنه غير ظاهر في يوم العمل فلا يتواصلون أثناء العمل ويظهرون حرصا شديدا على أسرار العمل، لكن يتم التجمع على شكل أنشطة اجتماعية خارج العمل، هناك يتم تقييم الموظفين، وهناك يتم الترشيح للمناصب، وهناك تصنع وتبنى كثير من عقبات تطوير العمل. يحرص اللوبي على التجمع غير الرسمي ليس لعمق الصداقة كما يدعي، لكن لحجم خسارة الخروج منه، اكتشاف هذا التجمع أولى خطوات السيطرة على المؤسسة، ومن ثم تفكيك حلقات تعطيل التطوير، لكن هذه المسألة ليست سهلة فأعضاء هذا التجمع قريبون من آذان الرؤساء ويوجهون انتباههم إلى أشخاص، أو تجمع آخر منافس، وفي أصعب التجارب التي مرت بي أن يكون التجمع إلكترونيا عن طريق مجموعات التواصل أو من خلال الاتصال الهاتفي فقط.
ومع انتهاء مساحة الكلام هنا فلي عودة لهذا الموضوع ولكن أتمنى من القراء إرسال تجاربهم لي عبر البريد الإلكتروني.