الفحم .. صناعة تندثر

قادت تطورات أسواق الطاقة في العالم إلى الضغط على صناعة الفحم الحجري. وقد تزايدت هذه الضغوط خلال السنوات الأخيرة بسبب المخاوف المتزايدة من تلوث الغلاف الجوي للكرة الأرضية، وترجح ارتباطه بظاهرة ارتفاع حرارة المناخ. وتحتل الصين صدارة دول العالم في إنتاج واستهلاك واستيراد الفحم، حيث تحرق نصف الإنتاج العالمي تقريباً. وتحاول الصين خفض استهلاكها من الفحم للحد من الآثار البيئية المروعة على المدن الصينية وللوفاء بالتزاماتها الدولية تجاه اتفاقات المناخ. كما تسعى دول العالم الرئيسة المستهلكة للفحم مثل الدول الأوروبية والولايات المتحدة واليابان إلى خفض استهلاكه للحد من آثاره البيئية السيئة سواء على المستوى المحلي أو العالمي.
أدت الضغوط على صناعة الفحم الحجري إلى تقليص حجم عمالته في الدول المنتجة وخفض أسعاره. وتراجع أخيراً عدد العاملين في قطاع الفحم الحجري في ثاني دولة منتجة - الولايات المتحدة - لأقل مستوى منذ بداية جمع المعلومات المتعلقة بالصناعة. ووعد الرئيس الأمريكي المنتخب خلال حملته الانتخابية بإنقاذ صناعة الفحم الحجري ووظائفه، وذلك من خلال العدول عن القيود المفروضة على استهلاكه وإنهاء المنع من تعدينه في الأراضي الفيدرالية. وتمت الوعود الانتخابية طبعاً في المناطق التي تكثر فيها عمالة الفحم كبنسلفينيا وأوهاويو وغرب فرجينيا ووايومونج، ولهذا لا توجد غرابة في تصويت تلك المناطق لصالح ترمب. وبث انتخابه بعض الأمل لدى عمالة وملاك صناعة الفحم الحجري بإنقاذ هذه الصناعة من الاضمحلال. ولكن هل يستطيع ترمب إعادة الحياة إلى صناعة بدأت في الاندثار؟ يرى كثير من المختصين أن هناك عوامل اقتصادية متعددة تحول دون عودة الانتعاش إلى قطاع الفحم في الولايات المتحدة والعالم بشكل إجمالي.
ينافس الفحم الحجري بشكل رئيس الغاز الطبيعي، ويعتبر توافر كميات هائلة من الغاز الطبيعي في الولايات المتحدة بعد ثورة الغاز الصخري من أكبر العوامل التي تحول دون عودة الانتعاش للفحم الحجري. لقد ساعدت عمليات إنتاج الغاز الصخري على توفير كميات هائلة من الغاز الطبيعي وبأسعار زهيدة ومنافسة لأسعار الفحم الحجري في الولايات المتحدة. وبدأ الغاز الطبيعي بالحلول بشكل تدريجي في السنوات الأخيرة محل الفحم الحجري المستخدم بشكل رئيس لإنتاج الطاقة الكهربائية. وساعد توافر شبكات أنابيب الغاز في الولايات المتحدة على سرعة إحلال الغاز الطبيعي محل الفحم الحجري، ما خفض حصة الفحم الحجري في إنتاج الطاقة. ويتميز الغاز الطبيعي بنظافته البيئية النسبية مقارنةً بالفحم الحجري، حيث ينتج عن استهلاكه نصف الكربون الناتج عن استهلاك طاقة مماثلة من الفحم، كما تقل فيه ملوثات ضارة أخرى تكثر في الفحم، ما يجعله مرغوبا بيئياً. وتنشط شركات إنتاج الطاقة الكبرى مثل أكسون وموبيل في صناعة الغاز الطبيعي، لهذا فإن تشجيع استهلاك الفحم على حساب الغاز الطبيعي سيواجه معارضة قوية من هذه الشركات التي تحظى بنفوذ واسع. ومن الأسباب الأخرى لتراجع الطلب على الفحم تطور وزيادة استخدام وسائل إنتاج الطاقة النظيفة التي بدأت تكاليفها في الانخفاض بدرجات متسارعة، وتتميز هذه الوسائل بتفضيل كثير من الناس لها بسبب نظافتها البيئية. وتترجح بقوة فرص تصاعد حصة هذه الطاقة مقارنةً بوسائل الطاقة الأخرى مع مرور الزمن.
أما وعود الرئيس المنتخب بإزالة القيود على إنتاج الطاقة خصوصاً قطاع الغاز الصخري والفحم النظيف، فسيستفيد منها قطاع الغاز الطبيعي أكثر من الفحم الحجري. ولهذا ليس من المتوقع زيادة إنتاج واستهلاك الفحم الحجري في الولايات المتحدة خلال السنوات المقبلة. أما بالنسبة لأسواق الصادرات، فإن هناك توجهاً لمعظم الدول الرئيسة المستوردة للفحم الحجري لخفض استهلاكه، إضافة إلى ذلك سينخفض الطلب على الفحم الأمريكي بالذات بسبب التغير المرتقب في سياسات الولايات المتحدة التجارية التي تميل لمزيد من الحمائية. وتصدر أمريكا كميات كبيرة من الفحم الحجري لشركائها التجاريين الرئيسين في أوروبا وأمريكا اللاتينية وكندا والمسكيك والبرازيل والصين. وستفرض الدول المستوردة للفحم الأمريكي قيوداً على وارداته إذا واجهت حواجز تجارية إضافية مقابلة أمام صادراتها. ويهدد تخلص الرئيس الأمريكي من اتفاقية "النفتا" بتقليص صادرات الفحم إلى كندا والمكسيك، وتعتزم كندا التخلص من استخدام الفحم قبل عام 2030.
وعموما يرى المختصون أن السبيل الوحيد لزيادة استهلاك الفحم هو إلغاء كثير من القيود البيئية على استخدام الفحم ومنح مزايا ضريبية، وسيكون هذا صعباً لأن معظم هذه القيود تشريعات قانونية يصعب نقضها وستولد أي محاولة للتخفيف من القيود البيئية على استهلاك الفحم معارضة قوية من قبل معظم السكان. وحتى لو زاد إنتاج الفحم فليس من المتوقع أن تنجح خطط الرئيس الأمريكي في إنقاذ وظائفه، بسبب توجه الصناعة لمزيد من الميكنة والآلية لخفض حجم العمالة، كما أن أي انتعاش لصناعة الفحم سيتم في الجانب الغربي للولايات المتحدة الذي يستخدم الميكنة بشكل مكثف ما يعني أن عدد العمالة في صناعة الفحم الحجري لن يعود إلى الصعود مرة أخرى.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي