القيادة اليوم .. والثقة المؤسسية

القيادة اليوم .. والثقة المؤسسية

قبل ثلاثة عقود، كتب الراحل مارك مكورماك، الذي كان يشار إليه بـ "ملك التسويق الرياضي" كتابا بعنوان "ما لا يعلمونك إياه في كلية هارفارد للأعمال". وقد ورد في هذا الكتاب، أن مؤسس تجمع التسويق الرياضي/ المشاهير أي إم جي (يذكر أن آرنولد بامر وتايجر وودز وأمثالهما كانوا على قائمة زبائنه) كان قد ذكر أن العمل في عالم الأعمال لم يكن "من خلال الكتاب"، وقد بقي كتاب مكورماك هذا لمدة 12 أسبوعا على قائمة "نيويورك تايمز" للكتب الأكثر مبيعا.
أما اليوم، فقد يكون الموضوع هو "ما الذي لا يستطيعون أن يعلموك إياه في كلية هارفارد للأعمال" (أو إنسياد، أو أي كلية أعمال رفيعة المستوى)، ويعود ذلك، وفقا لسنوات من البحث قام به اثنان من مختصي "إنسياد" البارزين في القيادة، إلى أن أكثر ما يجعل من الشخص قائدا جيدا أن يكون مطبوعا على القيادة، وليس مصنوعا، وأن التدريب على القيادة يعتمد على ذلك ويستفيد منه. يقول مانفريد كيتس دي فريز، أستاذ تطوير القيادة والتغيير التنظيمي: "كثير من مهارات القيادة يتم تعلمها في المنزل، ولا توجد قيادة من دون سياق"، في إشارة إلى دراسة حالة أجراها على رجل ريادة الأعمال ريتشارد برانسون، الذي تمت مقابلة والديه لغايات الدراسة.
"ذات مرة، سألت برانسون ما إذا كان أحد من أسرته من رواد الأعمال"، ويستذكر كيتس دي فريز أن برانسون قال له: "لا أحد في الأسرة من رواد الأعمال، لقد جئنا من أسرة مهنتها المحاماة"، ثم قال: "والدتي الحمقاء ـــ مشاريع مجنونة، الواحد تلو الآخر،" وعندما قابلت والدته، أدركت أنه قد أخذ ريادة الأعمال منها". ليس من الضروري أن يكون أحد الوالدين، قد يكون أحد الأجداد، أو الأعمام أو العمات، أو الأخوال أو الخالات، أو حتى المعلم أو الصديق الذي يرى في الطفل شيئا، فيعززه. يقول كيتس دي فريز: "لديهم نوع آخر من المسرح الداخلي، يقولون: سأري هؤلاء الأوغاد، وسأريهم أنني أستطيع فعل ذلك، ولكن، ومع ذلك، لا بد أن يكون هناك شخص ما، في مكان ما، عادة ما يبدي اهتماما". ويتفق في ذلك مايكل جاريت، أستاذ السلوك التنظيمي في "إنسياد": "نجاح القيادة مرتبط بطريقة تفكير الناس، ومشاعرهم وسلوكهم، والأمر يتعدى مسألة الكاريزما، هذا هو سلوكنا الافتراضي، كيف نرى أنفسنا، كيف نتصرف، الشخصية مؤشر جيد في نجاح القيادة".
يفترض جاريت وجود "جانب مضيء" وجانب معتم" لكل مدير. يأتي الجانب المضيء من خمسة عوامل شخصية كبيرة: "الاستقرار الوجداني، والانبساط النفسي، والانفتاح على الخبرات، والحساسية العاطفية، ودرجة وعينا أو دوافعنا لمدى قدرتنا على الإنجاز". سجل القادة الناجحون ارتفاعا في عوامل الانفتاح والذكاء العاطفي والدوافع، أما في الجانب المظلم، فيقول جاريت: "ثمة خطوط للتصدع النفسي، يمكنني أن أصفها سيكولوجيا بالانطواء، والإحساس بالعظمة، كأن كل شيء يدور حولهم، وأيضا الإدارة التفصيلية، وهو الهوس، وهذه الأشياء، كما نعلم، تؤدي إلى سوء الإدارة".
مما تقدم، يتبين أن شخصية القائد تؤثر في مكان العمل، وبالتالي في أداء الشركة، وهذا غير مستغرب. يقول جاريت في هذا الشأن: "تشير البحوث إلى أنه إذا كان لدينا قائد إيجابي، ودود ومنفتح، يرى العالم على أنه مكان جميل، فإن ذلك ينتقل إلى نفوس الناس من حوله، فيصبحون متحمسين، ما يؤدي إلى أداء عالي المستوى، ولكن إذا دخل القائد وقال "يا إلهي، لا أريد أن أكون هنا اليوم، أليس هذا العالم بغيضا؟" فإنهم سيرون العالم ظلاما حالكا. ثم، خمِّن ماذا سيحدث. إن لهذا تأثيرا مباشرا في أعضاء الفريق، وفي أداء المؤسسة".
يشير التحول الحاصل في بيئة الأعمال العالمية بوضوح إلى أن «التنفيذي» اليوم أكثر عزلة من أسلافه من الشركات، فالوظيفة الأبدية غير موجودة تقريبا، وكذلك الموظفون الذين يتمتعون بالمزايا، والولاء بين صاحب العمل والموظف، الذي يراوح بين صعود وهبوط على سلم الشركات، يتآكل. تتطلب التكنولوجيا تطوير المهارات الوظيفية وتحديثها بشكل مستمر، في حين قد يخبو نجم الشركات بين عشية وضحاها "أتتذكر فضائي؟". عليك أن تتدبر أمر حياتك المهنية، وهذا هو ما يعمل على تغيير تدريب القيادة.
يعود كيتس دي فريز بذاكرته إلى الوراء، فيستذكر أن التدريب في الماضي كان يختص بأولئك المختلين وظيفيا، فمن كان مختلا وظيفيا، كان يرسل إلى مدرب للقيادة، على أمل أن يحصل شيء، "لكن، ومع استحداث العقود النفسية بين المؤسسة والفرد، أصبح لزاما على المرء أن يتدبر أمر حياته المهنية".
يعتقد جاريت أن التدريب التنفيذي الفردي يستغرق وقتا (6 ـــ 12 شهرا)، جنبا إلى جنب مع الرغبة في التغيير. إنه ليس "علاجا"، وإنما هو التركيز على من أنت، وكيفية القيام بدورك بشكل فاعل في المؤسسة. "تشير البحوث إلى أن التدريب، بالنسبة للمرشح المناسب، الذي يحصل على منهجية تدريبية مناسبة، لا بد أن يترك أثرا، فالناس يغيرون سلوكهم فعلا، ويكون لهم تأثير في المؤسسة". كيتس دي فريز معروف بمنهجه الإكلينيكي فيما يتعلق بدراسة التغيير القيادي والتنظيمي "الذي يتضمن نهج المجموعة في التطوير التنفيذي في إنسياد". لقد وضع سلسلة أدوات القياس الـ "360 درجة" للتغذية الراجعة، التي تقيس الاستجابات والتأثير صعودا وهبوطا في التسلسل الهرمي للشركات، وذلك لمساعدة مدربي القيادة على فهم طلابهم التنفيذيين وتعليمهم على نحو أفضل. يقول كيتس دي فريز: "يبقى الناس طبيعيين إلى أن تعرفهم بشكل أفضل، عندما تحتك بهم قليلا، يأتيك من بين المجموعة شخص متميز، وفي كل مرة، عندما تقدم إحدى المجموعات عرضا، فإنك تعرف شيئا عن نفسك، لأننا جميعا نرجسيون، ونقول "يا إلهي، إن لدي الشيء نفسه، كنت أعتقد أنني الوحيد، لكنه يمتلك الشيء نفسه أيضا".
يقول كيتس إن المجموعات تفعل دائما الشيء ذاته، الشيء الذي يحدث في مكان العمل والفصول الصفية التنفيذية: المنافسة والنرجسية والإحساس بالوحدة والحاجة إلى الانتماء، ويرى كيتس أن "لدينا الميل لنخدع أنفسنا، نرى أنفسنا من خلال نظارات وردية. ولهذا استخدمت أداة القياس ذات الـ 360 درجة. التقييم الذاتي نشاط مضلل، بفعل عامل المرغوبية، الذي يشوه صورة الذات. التغذية الراجعة من الآخرين تساعد الناس على أن يروا أنفسهم بشكل أكثر دقة ـــ رؤساء، مرؤوسون، أصدقاء، أفراد أسرة، أي شيء ـــ لكي توضع الأشياء في مسارها الصحيح"، وكما يقول المثل: "إذا قال لك واحد من الناس إن لك أذنين كأذني الحمار، فتجاهله، أما إذا قال لك ذلك اثنان من الناس، فما عليك إلا أن تبحث لنفسك عن سرج".
يعتقد كيتس أن كثيرا من مبادئ القيادة هي مبادئ أساسية جدا "أساليب القيادة عند الإسكندر الأكبر وجنكيز خان لها ما يشابهها"، ويعتقد جاريت أنه على الرغم من أن عالم الأعمال اليوم أكثر عالمية وتنوعا ثقافيا، إلا أن هنالك قواسم مشتركة هي: وجود رؤية، وقدرة على التدريب، وتمكين الناس.
ما يختلف اليوم في مسألة القيادة، هو نوعية الموظفين هناك في مكان العمل، ممن ينتظرون أن تدار أمورهم. النصوص الإدارية التقليدية موجهة إلى الموظفين في الدول الغربية الصناعية، الذين عادة ما يكونون من الذكور ذوي البشرة البيضاء، ممن أنهوا الدراسة الثانوية. يعمل هؤلاء الناس في الصناعات التقليدية، كصناعة السيارات، على سبيل المثال. تتوقع مختلف مؤسسات الفكر والرأي أنه في العقد المقبل، سيتم استبدال هؤلاء العمال بعمال ذوي خلفية قائمة على المعرفة.

الأكثر قراءة