إدارة رشيدة للمالية تحفز الاستدامة للميزانية
يعتبر استقلال السنوات المالية من المبادئ المحاسبية المرعية في الحسابات الحكومية، فكل سنة مستقلة بإيراداتها ومصروفاتها عن السنوات التي سبقتها أو التي تليها، وهذا مهم جدا في قضايا عدة من بينها تقييم الإنجازات، لكن الأهم هو أن استقلال السنوات المالية يحتم علينا العمل دوما من أجل تدبير الإيرادات لمصروفاتنا كل عام، ففي كل سنة مالية تقوم الدولة بتشريع المصروفات، وبهذا تصبح ملزمة، لكن تبقى الإيرادات مجرد تقديرات فلا يمكنك ضمان حصولك عليها في وقتها وفي صورتها التي تنبأت بها، لكن هذا يعني أن علينا الاجتهاد وبذل ما نستطيع في تدبير تلك الإيرادات وتحسين آليات العمل والإنتاجية من أجل تحقيق وفر في مصروفاتنا أو تحقيق نمو في الإيرادات، ولا نضع في اعتبارنا ما تحقق من وفر في السنوات الماضية وهو ما نسميه الاحتياطيات، فلا نعتمد عليها لتبرير كسلنا وتبذيرنا في السنوات التالية التي تتناقص فيها إيراداتنا. ولهذا فإن إعلان العجز في كل عام ليس بالضرورة أن يعني تغطيته من الاحتياطيات فقط بل لا بد من تدبير مصادر أخرى للتمويل تحفز الإنتاج وتعزز مفهوم المسؤولية لدى المجتمع. وهذا ما تعمل عليه الحكومة السعودية فهي بقدر ما تتحمل من أعباء لدعم المواطن وتوفير سبل الراحة والرفاهية إلا أن على المواطن إدراك واجباته ودوره في الترشيد وفي رفع كفاءة إنتاجه ودعم خيارات الوطن.
من هذا المفهوم الواسع يمكن فهم أسباب العجز الذي من المتوقع أن يتحقق في العام المالي 2016، وفهم آلية تمويل هذا العجز. فقد توقعت الحكومة السعودية عجزا قيمته 326 مليار ريال العام الجاري 2016، لكن وفقا لتحليل وحدة التقارير في صحيفة "الاقتصادية"، فقد جمعت السعودية أموالا قيمتها 380 مليار ريال (101.3 مليار دولار) لتمويل هذا العجز المتوقع خلال العام الجاري، وقد لجأت الحكومة السعودية إلى ثلاث طرق لتمويل العجز المتوقع، وهي: السحب من الاحتياطي، وإصدار أدوات دين تشمل الصكوك والسندات وأدوات أخرى سواء محلية أو خارجية، والاقتراض المباشر. هذا التنويع له مبرراته كما أشرنا، فالاعتماد على الاحتياطيات فقط في تمويل العجز ـــ الذي قد يستمر لسنوات إذا لم تتحسن أسعار النفط ــــ قد يتسبب في ضياع كل تلك الاحتياطيات كما حصل في سنوات مالية سابقة، وهذا سيفقد المالية العامة مرونة مهمة تحتاج إليها في أوقات معينة كأن يتأخر تحصيل قروض أو إيرادات ما يؤثر في القدرة المالية على الدفع وهو أمر يمكن تفاديه ببساطة مع خطة منضبطة للسحب من الاحتياطيات تراعي السنوات المقبلة، ولهذا أيضا تم بناء مخصص لدعم ميزانية 2016 بمبلغ 183 مليار ريال، لمواجهة النقص المحتمل في الإيرادات ليمنح مزيدا من المرونة لإعادة توجيه الإنفاق الرأسمالي والتشغيلي على المشاريع القائمة والجديدة، وهذا يشير إلى تحولات مهمة في إدارة المالية العامة وتوجهات جديرة بالاحترام والتقدير وتمنح أمانا كبيرا لجميع القطاعات وللمستثمرين على وجه الخصوص.
ووفقا لتحليل "الاقتصادية" فإن السحب من الاحتياطي العام قد أخذ نصيب الأسد في تمويل العجز، حيث تم سحب نحو 180 مليار ريال منه خلال 2016، فيما بلغت الديون مجتمعة 200 مليار ريال تعادل 53 في المائة من التمويل للعجز، توزعت بين أدوات دين محلية، وسندات خارجية، وقرض خارجي. هذه المرونة الواضحة في تمويل العجز وطريقة إدارته تمثل تطورات مهمة في المالية العامة للدولة لم نشهدها من قبل، كما أن وجود 200 مليار كديون ليس أمرا مقلقا بالضرورة طالما نحن قادرون على خدمة الدين، والمهم أن الدائنين أصبحوا شركاء في التنمية، ووجود هذا التنوع من الشراكة دليل لا يدحض على كفاءة الاقتصاد السعودي وكفاءة إدارة المالية العامة للدولة. ومع هذا التطور في شكل أدوات الدين فإن التغيرات في سعر الفائدة على الريال السعودي ستكون محط مراقبة عالمية، وهذا يبقي علينا مسؤوليات أكبر تجاه الاقتصاد الذي بدأ يتحول تدريجيا من اقتصاد محلي إلى عالمي الطابع.
ومع حدوث العجز المتوقع إلا أن وحدة التقارير في "الاقتصادية" تشير بوضوح إلى تحسن ملموس في إدارة المال العام، حيث يقل العجز المتوقع 2016، بنسبة 11 في المائة (41 مليار ريال)، عن المحقق فعليا في 2015، والبالغ 367 مليار ريال وهذا على الرغم من حدة التقلبات في أسعار البترول في الفترة الأخيرة، وتصحيح الأوضاع الاقتصادية في البلد، خاصة في جانب التوسع في الرواتب والبدلات وأيضا محاربة الفساد، إضافة إلى أن الاهتمام بالمشاريع الرأسمالية المتحققة الجدوى منح قوة لوضع المالية العامة وتعزيز فرص الاستدامة ومواصلة اعتماد المشاريع التنموية والخدمية الضرورية للنمو الاقتصادي وهو المتوقع أن تتضمنه موازنة عام 2017.