التحول في مزيج السياسات الأمريكية

التحول في مزيج السياسات الأمريكية

بعد عام من الاضطرابات المالية والمفاجآت السياسية والنمو غير المستقر في كثير من أنحاء العالم، اتخذ الاحتياطي الفيدرالي هذا الشهر قرارا برفع أسعار الفائدة للمرة الثانية خلال عشر سنوات، فيما يعد ظاهرة صحية توضح أن تعافي أكبر اقتصاد في العالم يسير على المسار الصحيح.
ولم يكن تحرك الاحتياطي الفيدرالي مفاجأة بأي حال. فقبل ذلك بأسابيع، كانت احتمالات حدوثه كبيرة بالفعل حسبما توقعت الأسواق. ولكن تطورات الأسواق السابقة على قرار الاحتياطي الفيدرالي كانت هي المفاجأة بالنسبة لكثير من المتابعين.
ومن اللافت للنظر بوجه خاص تلك الارتفاعات الحادة في أسعار الفائدة الأمريكية الأطول أجلا، وسعر الدولار الأمريكي، والمقاييس السوقية لتوقعات التضخم طويلة الأجل بمجرد انتهاء انتخابات الرئاسة والكونجرس في 8 نوفمبر الماضي. ولم يسبق قط أن ظهرت ردود فعل سوقية مفاجئة على غرار ارتفاع أسعار الفائدة، الذي حدث بقرار من الاحتياطي الفيدرالي في كانون الأول (ديسمبر) 2015 وقد زاد ارتفاع الدولار في الأيام التالية لتحرك الاحتياطي الفيدرالي أخيرا.
وسيتضح في قادم الأيام ما إذا كانت هذه التطورات إيذانا باتجاه عام جديد. غير أن الأرجح أن الانتخابات هي بداية تحول في نظام السياسة الأمريكية ربما يحدث آثارا مستقبلية أكبر في الأسعار والنشاط – سواء في الخارج أو في الولايات المتحدة. وسيكون أثر التداعيات خارج الولايات المتحدة قويا في اقتصادات الأسواق الصاعدة على وجه الخصوص، حيث نجد في بعض البلدان أن مزايا التنافسية المعززة نتيجة انخفاض سعر العملة قد توازن بدقة جوانب الضعف القائمة.
كانت عائدات سندات الخزانة منخفضة للغاية منذ بداية 2016 وحتى نهاية الانتخابات الأمريكية. وأكدت المناقشات التي تناولت آفاق الاقتصاد العالمي، بما فيها المناقشات التي أجراها الصندوق، على مخاطر استمرار النمو المنخفض والضغوط الانكماشية لفترة طويلة – بل الركود المزمن، مع استمرار أسعار الفائدة المنخفضة.
غير أن أسعار الفائدة الاسمية الأطول أجلا تأثرت تأثرا كبيرا بالمسار المستقبلي المتوقع لسعر الفائدة الأساسي الذي يحدده الاحتياطي الفيدرالي الذي يستجيب بدوره لضغوط التضخم وقوة أساسيات الاقتصاد. ومن ثم، فقد حدث تغير في طبيعة النقاش الدائر مع التحول الحاد الذي شهدته أسعار الفائدة الأمريكية الأطول أجلا في أعقاب الانتخابات، فأصبح لا يقتصر على ارتفاع أسعار الفائدة المرتقب في كانون الأول (ديسمبر)، وهو ما كان متوقعا إلى حد كبير بالفعل أيضا، بل امتد ليشمل تحول التوقعات المتعلقة بمسار أسعار الفائدة المستقبلي وحالة الطلب المستقبلي في الاقتصاد الأمريكي.
وتمشيا مع تلك التوقعات، ففي الوقت الذي كان فيه ارتفاع أسعار الفائدة في الأسبوع الماضي غير متوقع في حد ذاته، فقد زادت حدة مسار أسعار الفائدة المستقبلي الذي يستشرفه أعضاء لجنة السوق المفتوحة التابعة للاحتياطي الفيدرالي أيضا، وأصبح يشير الآن إلى ارتفاع أسعار الفائدة ثلاث مرات على مدار العامين المقبلين.
والمفتاح الأساسي لفهم الأسباب وراء تحركات الأسواق هو توقيت التحركات المفاجئة لأسعار الأصول التي جاءت بعد أيام من الانتخابات الأمريكية. فمع انتخاب دونالد ترمب رئيسا، وما صاحب ذلك من استمرار سيطرة الجمهوريين على الكونجرس، انتهت ست سنوات من الانقسام في الحكومة الأمريكية.
لطالما أيد الجمهوريون في الكونجرس تخفيض معدلات الضريبة على الدخل الشخصي ودخل الشركات. وكانت حملة الرئيس المنتخب ترمب قائمة على برنامج لا يشمل تخفيضات ضريبية كبيرة فقط، بل زيادات أيضا في بعض فئات الإنفاق الحكومي، ومن أبرزها الدفاع والبنية التحتية.
ويصعب أن نحدد على وجه الدقة في هذه المرحلة المبكرة كيف سيبدو التحول في سياسة المالية العامة. لكن ما يبدو واضحا أن هذه السياسة ستصبح أكثر توسعية باستخدام مزيج ما يجمع بين زيادة الإنفاق وتخفيض المعدلات الضريبية.
وبوجه عام، ستؤدي أي زيادة في الطلب الكلي الأمريكي إلى بعض الارتفاع في الناتج الحقيقي – حيث سيتم تعيين عمالة جديدة، وزيادة ساعات العمل لآخرين، واستخدام الآلات بكثافة أكبر – وبعض الضغوط الرافعة للتضخم. ومع وصول معدل البطالة الكلي إلى 4.6 في المائة والتحسن الذي شهدته مقاييس ضيق سوق العمل الأخرى بعد تأثرها بالأزمة المالية التي وقعت منذ ثماني سنوات، قد يكون التراخي المتبقي في الاقتصاد الأمريكي ضئيلا للغاية. وما لم تحدث زيادة كبيرة في مستوى المشاركة في سوق العمل وفي ساعات العمل الإضافي، قد يتسبب ذلك في ارتفاع ضغوط التضخم بشكل ملحوظ. ويبدو أن هذا هو ما يفكر فيه الاحتياطي الفيدرالي إذ يتنبأ بأنه سيرفع سعر الفائدة على القروض الفيدرالية بسرعة أكبر.
وقد كانت أسعار الفائدة الأمريكية على مدار التاريخ من أهم محركات التدفقات الرأسمالية الصافية إلى اقتصادات الأسواق الصاعدة. ويمكن أن تكون مرونة أسعار الصرف عاملا مساعدا باعتبارها هامش أمان واقيا من آثار التدفقات الخارجة السريعة، حيث تسمح للمحافظ الدولية باستعادة التوازن من خلال تغيرات العملة وليس خسائر الاحتياطيات. غير أن اقتران ارتفاع أسعار فائدة الدولار وانخفاض سعر العملة المحلية يمكن أن يخفض السيولة أو يزيد من ضعف الميزانيات العمومية، وخاصة بالنظر إلى أهمية اقتراض المقيمين والشركات غير المقيمة بالدولار في اقتصادات الأسواق الصاعدة. وإضافة إلى ذلك، قد يتسبب انخفاض أسعار العملات في رفع معدلات التضخم،
ولذلك سيواصل صناع السياسات توخي اليقظة في الأسواق الصاعدة.
وإذا أعقب تغير نظام السياسات الأمريكية حدوث تحولات حادة في أسعار الصرف وتنامٍ في الاختلالات العالمية، ستصبح الضغوط الحمائية خطرا جسيما، مثلما حدث في ظروف مماثلة سابقة.
ولذلك ينبغي أن تظل الحكومات مدركة للآثار العكسية التي يرجح أن تحدثها الحماية في الداخل – حتى قبل أن يشرع الشركاء التجاريون في إجراءات انتقامية سيكون لديهم الحافز لاتخاذها. وما يؤكد هذا الخطر اندماج الاقتصادات المتقدمة في سلاسل عرض عالمية بحق. ففي بيئة تتسم بالتفاوت الحاد بين البلدان في مزيج السياسات المطبقة، وهي البيئة التي ربما نواجهها في الوقت الراهن، ستكتسب قواعد النظام التجاري العالمي أهمية أكبر من أي وقت مضى.

الأكثر قراءة