لم يفتني شيء
اضطررت أثناء دراستي مرحلة الدكتوراه في بريطانيا إلى مقاطعة الشبكات الاجتماعية نحو أربعة أشهر إلا في حدود ضيقة جدا.
لم يكن خيارا، بل كان ضرورة. كنت أمام موعد محدد لتسليم بحثي، وأي تأخير قد يودي بحياتي الدراسية، وقتئذ.
أعطيت جهازي الذكي، الذي أدخل من خلاله إلى صفحات الإنترنت، أحد زملائي الذي يدرس في منطقة أخرى في المملكة المتحدة، واقتنيت جهازا آخر لا يوفر خاصية دخول الإنترنت حتى لا أتراجع وأستسلم بسهولة.
شعرت في أول يوم بالشعور نفسه الذي كنت أراه في المشاهد التمثيلية للمدمن، كنت أشعر بمزاج سيئ، ورغبة جامحة لتصفح الإنترنت، تتعاظم وتكبر وتقودني. أكتب بحثي بلا تركيز، وأنا أفكر في حسابي في "تويتر" أو "إنستجرام". أفكر في التعليقات والرسائل التي تركتها خلف ظهري. أفكر في ماذا يدور في غيابي في العالم السايبري. لم أصمد طويلا. نكثت العهد الذي قطعته على نفسي. خذلتني. وفتحت الإنترنت عن طريق جهاز اللابتوب الخاص بي، لكن شعرت بالذنب ذنب كبير. كيف لم أستطع مقاومة شهوة الإنترنت؟ كيف سأنجز بحثي؟ هل أعود إلى وطني جارا أذيال الخيبة لأني لم أستطع مقاومة تغريدة تراودني أو تعليق أضعه أو رسالة خاصة أقرأها؟ وضعت حواجز نفسية أكثر أمام نفسي بعد فشلي الأول في مقاطعة الإنترنت حتى أنهي بحثي بسلام.
قررت ألا أكتب بحثي في المنزل أو المقهى. عندما أقوم بذلك سأتسلل خلسة لدهاليز "تويتر". حرصت أن أنقل ورشة عملي في منتصف مكتبة الجامعة التي أدرس فيها في مدينة مانشستر؛ حتى لا أتجرأ على تصفُّح المواقع الاجتماعية في الإنترنت والطلاب أمامي وخلفي وعن يميني وشمالي منهمكون في القراءة والكتابة البحثية والعمل، بينما أتنزه إنترنتيا. سأزدري نفسي لو سمحت لها بأن تقترف خطيئة دخول الإنترنت في هذه الفترة.
نجحت الخطة تماما. كنت أذهب إلى المكتبة الساعة التاسعة صباحا، ولا أعود إلى شقتي إلا العاشرة مساء يوميا تقريبا. كنت أصل منهكا غير قادر سوى على النوم.
كان طعامي وصلاتي وكل حياتي في تلك الشهور الأربعة في الجامعة. أزعم أنني أنجزت فيها كمًّا ونوعا ما لم أنجزه في حياتي. وعندما سلمت بحثي على خير عدت إلى الإنترنت والشبكات الاجتماعية لألحق بما فاتني. الحقيقة الصادمة أنه لم يفتتي شيء. ما زلنا نتراشق باحتراف ونتصارع بيننا باحتراف. جربوا الابتعاد عنه قليلا، وستكتشفون أنه لم يفتكم شيء داخله، لكن فاتكم كثير خارجه. كبرت أمهاتكم دون أن تشعروا. غادر أحبتكم دون أن تنتبهوا. ضاعت فرص كثيرة وأوقات ثمينة عليكم وأنتم لا تعلمون.