البسام تاجر العرب .. خرج من عنيزة وصادر الفرنسيون أمواله
محمد بن بسام ليس شخصية عادية، أو رجلا عاديا، أو مجرد ثري، أو تاجرا من تجار العقيلات، فالحديث عن هذا الرجل له نكهة خاصة، ويكفي دليلا على أن أحد رجال هذه الأسرةاستطاع أن يوقف مشاركة جيش عنيزة في إحدى الحروب، عندما أشار على أمير عنيزة زامل بن عبدالله السليم بأنه لا مصلحة لمدينة عنيزة من المشاركة في هذه المعركة، واستطاع أن يصرف نظره عند الدخول في هذه الحرب. وهذا الرجل هو عبدالله بن عبدالرحمن البسام. بل يذكر الرحالة الإنجليزي تشارلز داوتي أن عبدالله البسام قام بالصلح بين الإمام عبدالله الفيصل والأمير محمد بن رشيد بعد تلك المعركة، كما ذكر المستشرق ألويس موزل هذا الصلح. وعبدالله هو والد محمد بن بسام التاجر الشهير موضوع حديثنا. كما كان لواحدة من نساء هذه الأسرة شهرة، وهي موضي البسام، التي قيل فيها المثل الشهير "إلى جاك ولد سمة موضي". وقد عرفت هذه المرأة بالحصافة والحكمة والتدين والكرم وكانت محسنة فاضلة أنقذت الكثير من الموت جوعا في سنة الجوع عام 1327هـ، كما أنقذت البعض من الناس من القتل في معركة الصريف عام 1318، ومعركة البكيرية عام 1321هـ وغيرهما. وكان الملك عبدالعزيز يحترمها، ويقدرها ولا يسميها إلا العمة موضي، ويحرص كلما جاء إلى عنيزة على السلام عليها.
محمد بن بسام
ولد محمد بن بسام في النصف الثاني من القرن الثالث عشر الهجري، ونشأ في كنف والده، وبطبيعة الحال فقد درس في طفولته وبدايات شبابه على علماء بلده، حتى اكتسب حصيلة علمية لا بأس بها، كما استفاد من ثقافة والده السياسية والاقتصادية والاجتماعية، واستفاد من رواد مجلس والده وأفراد أسرته، وبين هؤلاء الرواد الأمراء والعلماء وشيوخ القبائل والشعراء والوجهاء وعامة الناس، فشب وقد اكتسب حصيلة ثقافية جيدة، صقلتها عقليته الكبيرة، وتفكيره المنظم. اتجه بعد ذلك إلى التجارة حتى أصبح أهم وأبرز تجار العقيلات في زمانه وأكثرهم شهرة وثراء، ولعلي أقتبس مقتطفات من كلمات كتبها الدكتور عبدالله العثيمين حيث يقول "وأعود بالذاكرة التاريخية أيضا، إلى عام 1321هـ، فأجد محمد بن عبدالله البسام ينطلق من عنيزة إلى الشام بأكثر من 100 رعية من الإبل". والرعية في اصطلاح عقيل يراوح عددها بين 80 بعيرا أو 100 بعير. وبطبيعة الحال لم تكن كل تلك الرعايا ملكا له، بل كان بعضها بضائع لآخرين. وقد حدثني الراوية متعب الحمود السبهان ـــ يرحمه الله ـــ أن "الأمير عبدالعزيز بن رشيد عند اقتراب ابن بسام من حائل أخرج مسيرة يوم وليلة ليقيم مأدبة غداء تكريما له. واستقام محمد البسام في الشام بعد تلك السنة، وأصبح المعتمد لدى الدولة العثمانية هناك في تأمين حاجتها من الإبل، ومنح تأمين نياشين منها. وكان من أعماله في الغربية أنه كان أول من أسس شركة نقل بين الموصل وأنقرة، كما أخبرني بذلك الصديق العزيز يعقوب الدغيثر. ولما استولى الفرنسيون على دمشق حاول الهرب بأمواله، فصودرت تلك الأموال". لكن جريدة "الأهرام" نشرت بتاريخ 14 تشرين الثاني (أكتوبر) 1925. خبرا عنه يقول "توقف الشيخ النجدي المعروف محمد عبدالله البسام عن تأمين طرق السيارات بين دمشق وبغداد لتوقف الاشتراكات التي تمنحها الشركات والمؤسسات التي تستخدم الطريق المهم لوكالته". وذكرت الأنباء في دمشق أن "عدم تأمين البسام طريق دمشق - بغداد ومرور السيارات فيه خاصة بعد حوادث جبل الدروز قد أخلى الجو لقطاع الطرق، الذين ذكرت الأنباء أخيرا أنهم اعتدوا على كثير من السيارات المسافرة. والمعروف أن محمد عبدالله البسام يعزى الفضل إليه في اكتشاف طريق دمشق ـــ بغداد وتمهيده للسيارات".
وتحدث المستشرق والرحالة الألماني أوبنهايم عن محمد بن بسام في كتابه "البدو"، حيث كان يتحدث عن الأمير أحمد باشا، من باشوات مصر، والد الأمير كثير الترحال يوسف كمال، وذكر أنه عرفه على ابن بسام فقال "وقد عرفني على محمد بن بسام من عنيزة، إحدى الواحات الواقعة داخل الجزيرة العربية. كان محمد بن بسام واحدا من أكثر كبار تجار العالم العربي أهمية. وقد توزعت مؤسساتها التجارية بين مكة وجدة ودمشق وبغداد، وكذلك في بومباي، التي كانت ترسل إليها خيولا عربية يشتريها عادة الجيش الإنجليزي، وكذلك مهاري للضباط البريطانيين. وكان للأسرة فروع تجارية في القاهرة وطرابلس أيضا، بل إنها امتلكت لبعض الوقت سفينة بخارية خاصة بها، أبحرت بين ميناءي البصرة وجدة. كانت لصداقتي مع ابن بسام أهمية كبرى بالنسبة إلى دراستي عن البدو، حيث كنت مرات عديدة معه في دمشق، مقر إقامته الأصلي، وسعدت بزيارته لي عام 1913 طوال أيام عديدة في تل حلف، وتلقيت منه حتى عام 1929 معلومات ذات قيمة كبيرة عن القبائل، خاصة قبائل الجزيرة العربية الأصلية. إنني أدين لهذا الرجل ذي الاطلاع الواسع، بعرض مترابط ومتكامل عن تطور علاقات السلطة في قلب الجزيرة العربية منذ بداية القرن الماضي حتى الحرب العالمية". كما نعثر على رسالة بعثها له المستشرق والرحالة الشهير جون فيلبي، تدل على صلة بينهما. ولشهرة وقيمة هذا الرجل فقد سميت الحارة التي يسكنها في دمشق بحارة البسام نسبة إليه. يقول الباحث محمد السيف عنه "وقد اتخذ من دمشق موطنا ومستقرا ومركزا لتجارته الواسعة، الممتدة من بغداد شرقا إلى القاهرة غربا، وإلى القصيم جنوبا". ثم نقل أن الشاعر والراوية موهق الغنامي "عمل مع الوجيه محمد البسام وتنقل معه في دمشق والقاهرة، الأمر الذي جعل موهقا يتعرف إلى المستشرق الألماني هس، الذي نشر باللغة الألمانية كتابا في عام 1938 تضمن معلومات تاريخية مهمة عن حياة البادية في الجزيرة العربية، وقد استقى هس معلوماته من عدد من أبناء الجزيرة، من بينهم أو لعل أبرزهم موهق الغنامي". ووصفه عبداللطيف الوهيبي بأمير عقيل، وقال عنه "من كبار تجار العقيلات في الجزيرة العربية".
عُرف بكرمه وإحسانه وشجاعته ورجولته ومصاحبته الأمراء ورؤساء الدول وشيوخ القبائل. حدر "سافر" إلى الكويت والعراق، وغرب إلى الأردن وسورية وفلسطين ومصر وإلى تركيا والهند وإيران ومعظم البلاد. جاب أغلب الجزيرة العربية لشراء الإبل والمواشي وجلبها للأسواق الجيدة. ولد في مدينة عنيزة عام 1260هـ، وتوفي في مدينة بغداد عام 1352هـ".
ابن بسام ورئيس الوزراء العراقي
روى فهد المارك في كتابه "من شيم العرب" قصة مهمة عن محمد بن بسام يقول فيها "مدار بحثنا حول شخصيتين كلاهما فرسا رهان، بالفضل، واصطناع المعروف. وهما ياسين الهاشمي ومحمد البسام. ولئن كان الأول أكثر بروزا في الميدان السياسي العربي خاصة في القضايا العربية، فإن الثاني ذو مكانة مرموقة ومنزلة سامية في محيطه ولا سيما من الناحية التجارية والاجتماعية. ولما كانت الحروب من عادتها أن ترفع دولا وتقضي على كيان دول أخرى، فإنها بطبيعة الحال ترفع أفرادا يقال لهم أثرياء الحرب وتقضي على أثرياء آخرين.. وكان البسام من الرجال الذين حصدت الحرب العالمية الأولى كل ما بين يديه من الأموال التي لا تحصى ولا تعد. وقضت على ثروته من نقود مجمدة، وأموال يشغلها في ميدان التجارة، ومواش تذهب من الجزيرة إلى مصر وسورية بصفته يمتهن تجارة المواشي بعشرات الألوف من الإبل إلى جانب التجارة في مجال الصرافة، فكان الرجل بوضعه الراهن آنذاك كبنك من أكبر البنوك العالمية. ولئن قضت الحرب على كل ما بين يديه من مال حتى إنه لم يبق عنده أدني شيء من تلك الثروة الطائلة فإنها ما استطاعت أن تقضي على وقاره وثباته وقوة شخصيته ورباطة جأشه وهدوء أعصابه. وقد ظل البسام محتفظا بشخصيته ومعتزا بشممه ولم يستكن للدهر ولم يبدُ منه خور، بل جابه الخطب الجلل الذي فوجئ به مجابهة البطل الواثق بنفسه. ومن أوضح الأدلة على ثبات الرجل وقوة بأسه ما نقله لنا راغب العثماني ( ) بقوله: بينما كان محمد البسام جالسا على مائدته التي لا تخلو دائما من الضيوف يتناول طعام الغداء في تلك اللحظة جاءه أحد رجاله فقدم إليه ورقة فقرأها ثم طواها وبدا مستمرا في حديثه الذي كان يتحدث به وظل يواصل قصة تاريخية بدون أن يبدو على محياه أدنى علامة من علامات الكآبة أو التشاؤم، فكأن الورقة التي قدمها موظفه ورقة عادية، وكان الأحرى بالضيوف ألا يعلم أي واحد منهم بما تتضمنه تلك الورقة، لولا أن الموظف طاش حلمه وفقد أعصابه وراح يتحدث للناس بوعي أو دون وعي بما تتضمنه الورقة من خبر سيئ. كانت الورقة تتضمن إشعار محمد البسام أن 70 ألف جنيه ذهبا صودرت له بصورة نهائية بين حدود سورية والعراق. وعلينا أولا أن نقدر قيمة هذا المبلغ في تلك الظروف لندرك أنه من القليل جدا أن يوجد تاجر في كثير من البلاد العربية لديه من رأس المال كهذه الثروة.. وإضافة إلى هذه الكارثة التي فوجئ بها البسام هو أن أكثر ما لديه من النقود كانت عملة روسية فصادف أن سقطت تلك العملة ولم يعد لها أي اعتبار في البنوك العالمية.. كان من شأن هذه الخطوب والمحن التي تتابعت على البسام أن تهد كيانه لكنها في الحقيقة لم تزده إلا جلدا وصبرا.. وقد ظل الرجل مستهترا بالأحداث، باسم الثغر، أغر الوجه، ناصع الجبين، ولم يكن لتلك الأحداث أي أثر في قوة معنويته الجبارة. هذا هو البسام، أما رفيقه ياسين الهاشمي فإنه كما ذكرنا أشهر من أن ينوه عنه، لا بكفاحه وإخلاصه لأمته العربية فحسب، بل وبما يتصف به من حظ وافر من شيم العرب".
أنهى لي راوي الحادثة راغب العثماني سالف الذكر، القصة التالية "شاءت دولة الاستعمار الفرنسية التي كانت باسطة نفوذها على سورية وقتذاك أن تشتري لرئيس قبيلة الرولة المغفور له الشيخ نوري الشعلان بيتا من أحسن وأكبر البيوت الموجودة في عاصمة الأمويين دمشق الفيحاء. فعمدت لهذه المهمة المرحوم محمد باشا العصيمي.. الذي لعب دورا أساسيا خطيرا آنذاك، فنقب العصيمي عن بيت صالح للشيخ ابن شعلان فلم يجد وقتها أحسن من بيت ياسين الهاشمي الكائن في قلب دمشق فابتاعه العصيمي من الهاشمي بـ 1500 جنيه ذهبا فقدمه العصيمي بدوره إلى نوري ابن شعلان بأمر من دولة فرنسا التي دفعت الثمن كاملا للهاشمي، وهو البيت الذي كان ينزله المغفور له فواز الشعلان حفيد النوري وظل حتى يومنا هذا ملكا لأسرة آل شعلان ويطلق على الحي بكامله الآن حي الشعلان. والشاهد في قصة البيت ومشتراه يعود للمرحوم ياسين الهاشمي الذي عندما تسلم قيمة بيته كاملة ذهب بها وأودعها عند صديقه الحميم محمد البسام وذلك قبل أن تتلف أمواله على الطريقة التي أشرنا إليها آنفا.. أخذ البسام المبلغ ووضعه ضمن مئات ألوف الليرات الذهبية العائدة له. وجاءت الكارثة التي فوجئ بها الرجل والتهمت رأس ماله الخاص وما لديه من الودائع بما فيها ودائع صاحبه الهاشمي. ترى ماذا فعل الهاشمي مع صاحبه البسام؟.. لقد فعل الرجل لصاحبه من العمل الذي عبر أطيب التعبير عما يتمتع به الرجل من نبل ومروءة جمة لا تصدر إلا من شهم كريم من أمثال ياسين الهاشمي.. وذلك أنه لم يقف به الحد إلى درجة كونه أغضى طرفه عن قضية الأمانة وتناساها بصورة نهائية وربما لولا أن محمد البسام نفسه تحدث عنها راغب العثماني وهذا بدوره نقلها إلينا لولا ذلك لما عرف عنها أحد قطعيا.. لا لم تقف مروءة الهاشمي ووفاؤه مع صاحبه إلى هذا الحد فحسب بل راح يسعى جاهدا لمؤاساة صديقه بنفسه. ولم يهدأ له بال أو يطيب له عيش حتى ذهب به إلى وطنه العراق ومنحه جنسية عراقية لكي يصبح له الحق بالنيابة في مجلس البرلمان العراقي. ولما كان البسام محبوبا معروفا بالجميل والفضل لا في مسقط رأسه الجزيرة العربية فقط بل وفي كافة الأقطار العربية ولا سيما في سورية والعراق، فقد كان من اليسير عليه أن يربح أصواتا تخوله أن يكون نائبا في مجلس الأمة العراقي. وقد تحقق له ذلك بعدما رشح نفسه بفضل مساعي صديقه الوفي وبفضل ماضيه السابق. وظل محمد البسام نائبا في عهد حكومة ياسين الهاشمي حتى توفاه الله.