متى ستخرج السوق العقارية من كسادها؟
تواجه السوق العقارية المحلية واحدة من أصعب مراحلها التاريخية، إذ في الوقت الذي ارتفعت خلاله الأسعار السوقية لمختلف الأصول العقارية إلى مستويات غير مسبوقة على الإطلاق مع منتصف عام 2014، لأسباب وعوامل سبق استعراضها في أكثر من مقال وتقرير، اجتمع أغلبها حول استيطان كثير من التشوهات داخلها، بدءا من زيادة احتكار الأراضي بمساحات شاسعة وحجبها عن الاستخدام والتطوير والانتفاع التنموي، مقابل زيادة السيولة المحلية خلال العقد الماضي، وانسداد أغلب الفرص الاستثمارية المجدية بوجود كثير من العوائق أمام رجال الأعمال، فيما وجدت تلك السيولة المحلية الهائلة الطريق ممهدا لخوض غمار مضاربات محمومة على الأراضي المحدودة العدد والمساحات ما لا يتجاوز 9 في المائة من إجمالي المساحات، ترتب عليه اندفاع الأسعار نحو الارتفاع الكبير جدا، وصل إلى أكثر من ثمانية إلى تسعة أضعاف خلال أقل من عقد من الزمن، ونتج عنه أيضا ارتفاع تكلفة الإيجارات التجارية والسكنية على حد سواء، وهو ما تسبب لاحقا في ارتفاع معدل التضخم وتآكل الدخل الحقيقي بالنسبة لأفراد المجتمع، عدا ارتفاع تكلفة الإنتاج والتشغيل بالنسبة لمنشآت القطاع الخاص، التي اضطرت بدورها لرفع أسعار منتجاتها وخدماتها في السوق المحلية، ليزداد التضخم مرة أخرى، ودخول تكاليف المعيشة والإنتاج في حلقة مفرغة من الارتفاع طوال العقد الماضي.
وعودا على ما تواجهه السوق العقارية المحلية خلال المرحلة الراهنة من تحديات جسيمة جدا، أدت إلى دخولها مرحلة كساد شديدة الوطأة مع مطلع الربع الثاني من العام الجاري، بعد دخولها مرحلة ركود من الربع الأخير في عام 2014 حتى الربع الأول من العام الجاري، خسرت خلال تلك الفترة أكثر من 56 في المائة من سيولتها المدارة، وانخفضت مبيعاتها من الأراضي والعقارات قريبا من تلك النسبة، وتواجه خلال المرحلة الراهنة والقريبة عديدا من العوامل العكسية، لعل من أهمها استمرار انخفاض أسعار النفط للعام الثالث على التوالي، زائدا ترشيد الإنفاق الحكومي وضبطه، وهما العاملان المتوقع استمرارهما لعدة سنوات قادمة، وعلى الرغم من الانخفاضات السعرية بنسب راوحت بين 15 و20 في المائة في المتوسط لأسعار السوق، إلا أنها لم تشجع كثيرا قوى الطلب للشراء بقدر العرض الكبير نفسه في الوقت الراهن، لا المستثمرين والتجار الذين انخفضت قيم صفقاتهم للفترة نفسها بنسبة 60 في المائة، ولا حتى المستهلكين النهائيين الذين انخفضت مشترياتهم للفترة نفسها أيضا بنسبة تجاوزت 54 في المائة.
زادت بصورة أكبر تلك الضغوط على السوق العقارية مع ارتفاع المعروض الفائض من بيع الوحدات السكنية الجديدة، إلى نحو 1.1 مليون وحدة سكنية شاغرة بنهاية 2016، ويتوقع أن يرتفع عددها مع نهاية العام الجاري إلى نحو 1.4 مليون وحدة سكنية. ولأن أغلب الحلول السابقة تركز على الجانب التمويلي بخفض نسبة مقدم الحصول على التمويل العقاري من 30 في المائة إلى 15 في المائة، إلا أنه نتيجة للتشبع الكبير لدى الأفراد من القروض المصرفية "استهلاكية، عقارية"، التي وصلت إلى 573.3 مليار ريال بنهاية عام 2016 يتحملها نحو 3.6 مليون فرد مقترض "عدا قروض شركات التقسيط"، ونتيجة لاستمرار الغلاء الكبير للأراضي والعقارات مقارنة بالدخل الحقيقي المتاح للأفراد، لم تفلح حلول تسهيل الحصول على التمويل العقاري ولا يبدو أنها ستجد طريقا لتحقق أمام هذه التحديات المعيشية الكبيرة جدا على كاهل الأفراد.
وتزداد الضغوط أيضا مع اندفاع الحكومة نحو إصلاح التشوهات التي عانتها السوق العقارية، عبر تطبيقها لنظام الرسوم على الأراضي لمحاربة احتكار الأراضي والحد من المضاربات عليها، ومع زيادة نشاطات تصفية وبيع بعض أملاك المتوفين من الأراضي والعقارات، التي تقدر بمئات المليارات من الريالات بأسعار اليوم، ستجد السوق العقارية المحلية نفسها أمام ما يشبه الطوفان من المتغيرات والعوامل المعاكسة تماما.
كيف ومتى للسوق العقارية المحلية أن تخرج من هذا المأزق "الكساد"؟! الإجابة باختصار شديد: بانخفاض الأسعار المتضخمة للأصول العقارية المختلفة، فكلما انخفضت أكثر انفرجت الأزمة، وكلما تشددت بعدم الانخفاض امتدت حالة الكساد لفترة زمنية أطول.
وللتوسع في الإجابة؛ يتضح من كل ما تقدم ذكره باختصار شديد حول العوامل المعاكسة للسوق، أن جميع حلول تحفيز "الطلب" قد استنفدت كامل قواها تقريبا، وأنها وصلت إلى نهاية الطريق. في المقابل؛ يظهر كثير من الحلول على جانب "العرض" التي كانت إلى وقت قريب جدا تسير ببطء شديد، سرعان ما ستشهد السوق العقارية تسارع خطواتها عاما بعد عام، بدءا من تسارع تحرير الأراضي المحتكرة، سواء الأراضي الخام التي تخضع الآن لتطبيق نظام الرسوم على الأراضي، التي بدأ ملاكها فعليا بالإسراع في تطويرها وتخطيطها تمهيدا للبناء عليها ومن ثم البيع، أو بسرعة ضخها في جانب عروض البيع النهائي، في الوقت ذاته يسابق ملاك الأراضي المطورة الزمن لأجل بيع ما يمكن بيعه مما يحوزونه من المخزون الهائل للأراضي، أو بالدخول في شراكات واسعة مع مجموعات مستثمرين ممولين لبناء وحدات سكنية جديدة، ومن ثم بيعها، أو بالاستفادة من نظام البيع على الخريطة، والحصول على التمويل اللازم للبناء والتشييد.
كل تلك العوامل والمستجدات تعتبر إيجابية جدا، وستنعكس بكل تأكيد على الأسعار المتضخمة بالانخفاض، وهو الانخفاض السعري الذي سيستمر تأثره لفترة تمتد إلى خمسة أعوام قادمة على أقل تقدير، لتشهد السوق العقارية انخفاضات إيجابية في أسعار أصولها المتضخمة، ستجد مع كل مستوى سعر منخفض لها قوة شرائية تقبل بها، وكلما انخفضت مستوياتها أكثر وجدت قوى شرائية، وهي الحالة التي سينتج عنها أمران بالغا الأهمية؛ الأول: اتجاه أسعار السوق نحو المستويات العادلة والمقبولة، نتيجة لتوازن قوى العرض والطلب بعد عقود من اختلال هذا التوازن. الثاني: إخراج السوق العقارية من حالة الكساد التي تخضع لها خلال الفترة الراهنة، استجابة لتراجع الأسعار وانخفاضها إلى مستويات دخل الأفراد الفعلية.
ختاما؛ يمكن القول هنا، في ضوء السيناريو الراهن والمستقبلي للسوق العقارية، في جانب العرض أو البيع، إن من سيقدم قبل غيره خصومات سعرية سيحقق أرباحا أكثر ممن سيليه من البائعين، ذلك أن أسعار السوق اليوم وإن كانت منخفضة عن الماضي، إلا أنها دون شك أفضل من أسعار الفترات القادمة. وفي جانب الطلب سيحوز من يقتنص السعر الأدنى أفضلية، بمعنى أنه كلما قام بتأجيل وقت الشراء قدر استطاعته، تحقق له توفير أكبر مقارنة بغيره. والله ولي التوفيق.