ما الذي يحمله المستقبل لروسيا اقتصاديا؟
كما في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث تنتشر مراكز الدراسات الاستراتيجية التي تضع تصورات ورؤى حول آفاق المستقبل سياسيا واقتصاديا وعسكريا وتقدمها لصناع القرار كي يسترشدوا بها في سياساتهم الداخلية والخارجية، شهدت روسيا في السنوات الأخيرة مراكز شبيهة لعل أبرزها ذلك الذي يقوده وزير المالية الروسي الأسبق أليكسي كودرين، النائب الحالي لرئيس المجلس الاقتصادي لدى الرئاسة.
في أحدث دراسة أعدها المركز الروسي المذكور، هناك رؤية تشاؤمية حول وضع روسيا في أسواق الطاقة داخل بلدان الاتحاد الأوروبي، وتوصية بضرورة تنويع الاقتصاد الروسي مع تنويع الأسواق المستوردة لصادرات موسكو من النفط والغاز والسلع الأخرى، علاوة على أمر مهم آخر هو التوصية بضرورة الابتعاد عن الخوض في القضايا السياسية الداخلية الخاصة ببلدان الاتحاد الأوروبي للحيلولة دون تسييس تعاون الأخيرة مع موسكو في قطاع الطاقة.
لكن هل لتلك الرؤية التشاؤمية وما صاحبها من توصيات مبرر في ظل جملة الحقائق الاقتصادية المعروفة عن روسيا؟
صحيح أن روسيا هي الدولة الـ 12 على مستوى العالم لجهة الناتج المحلي الإجمالي، والدولة السادسة من حيث القوة الشرائية، وصاحبة أكبر احتياطي للغاز في العالم، وصاحبة سادس أكبر احتياطي للذهب في العالم، والدولة المساهمة بربع الإنتاج العالمي الإجمالي من الألماس، ومالكة مؤسسات قوية في مجالات صناعة الفضاء والأسلحة والإنتاج الزراعي.
لكن الصحيح أيضا أن الاقتصاد الروسي يعتمد بصورة رئيسة على صادرات النفط والغاز التي توفر اليوم للدولة أكثر من 40 في المائة من إيراداتها. وبسبب تدني أسعار النفط من جهة، والعقوبات الاقتصادية الأوروبية والأمريكية المفروضة على موسكو على خلفية الأزمة الأوكرانية من جهة ثانية، والتكلفة الباهظة للتدخل العسكري في سورية لدعم نظام الأسد، وما استوجبه من التوسع المفرط في الإنفاق العسكري تحديثا للأسلحة وبناء للقواعد وغيرهما من جهة ثالثة (أشار تقرير لـ"معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام" إلى أن روسيا رفعت من إنفاقها العسكري خلال عام 2016، حيث صارت تحتل المرتبة الثالثة على مستوى العالم، بزيادة تعادل 5.9 في المائة)، فإن الاقتصاد الروسي راح يترنح ويحقق عجوزات متتالية، الأمر الذي تم معه استنزاف ما يقارب نصف احتياطي البلاد الذي تراكم في سنوات ارتفاع أسعار النفط. وليس أدل على صحة الجزئية الأخيرة من تصريح أدلى به وزير المالية أنتون سيلوانوف في عام 2015 وقال فيه "إن احتياطي البلاد يتآكل شيئا فشيئا، وإن روسيا قد تلجأ إلى السحب من احتياطيات مالية أخرى كصندوق الثروة السيادي المخصص بشكل رئيس للرعاية الاجتماعية" وذلك للإنفاق على مشاريع البنية التحتية وإنقاذ البنوك المحلية من الإفلاس ودعم سعر الروبل المتهاوي.
والمعروف أن ما عمق مشاكل روسيا هذه هو وقوف العقوبات الغربية والأمريكية عائقا أمامها للاقتراض من البنوك العالمية لدعم اقتصادها، أو لحصول شركاتها النفطية الكبرى (مثل غازبروم ونوفاتيك وروزنفط) على التمويل الغربي لتحديث تقنيات منشآتها النفطية، أو للبدء في مشاريع صناعية ونفطية جديدة. ولا حاجة لنا هنا إلى بيان مدى الضرر الذي لحق بالمواطن الروسي العادي من جراء هذه التطورات من ناحية فرص العمل والتوظيف والتضخم والدخل القابل للإنفاق.
بطبيعة الحال هناك من المسؤولين الروس من لم يتفق مع رؤية التقرير التشاؤمية وسارع إلى تفنيد مضمونه قائلا إن الدور النفطي لروسيا في السوق الأوروبية سوف يتعزز على المدى القصير بسبب تراجع الإنتاج والتصدير في بعض الدول النفطية من جهة، وتزايد حاجة أوروبا إلى الطاقة من جهة ثانية.
من جهة أخرى، أشار هؤلاء إلى تعافي الاقتصاد الروسي رويدا رويدا بعد امتصاصه الصدمة الأولى المتأتية من العقوبات الغربية، وقرارات موسكو الإقدام على بيع الأسهم المملوكة للدولة في الشركات الكبرى بهدف تحقيق الأرباح وجمع مليارات الدولارات، ودليلهم أن الاقتصاد انكمش بنسبة 3.7 في المائة في عام 2015، فيما لم يتجاوز الانكماش نسبة 0.7 في المائة في العام التالي.
يقول المراقبون المحايدون إن عام 2018 قد يشهد بداية خروج روسيا من ركودها الاقتصادي، مضيفين أن الأمر مشروط بتخفيف العقوبات الغربية وتخفيض موسكو إنفاقها العسكري، والكف عن مغامراتها الخارجية في أراضي الاتحاد السوفياتي السابق.
ولا يفوتنا في النهاية الإشارة إلى أن تقرير المركز الاستراتيجي الروسي تضمن جزءا خاصا حول الشرق الأوسط والدور الروسي فيه. فمثلما انتقد التقرير موسكو لإضاعتها كثيرا من فرص تحديث البلاد وتحسين معيشة المواطن بسبب دخولها في مواجهة مع الغرب حول الدروع الصاروخية والتسليح ومناطق النفوذ، فإنه انتقدها أيضا لأنها وضعت نفسها في مواجهة قوى إقليمية مهمة بسبب حصر اهتمامها في الدفاع عن النظام السوري. وهنا أيضا خرج من لم تعجبه هذه الانتقادات فزعم قائلا إن موسكو لم تساند الأسد وإنما ساندت الدولة السورية من باب الحفاظ عليها وصيانة وحدتها والحيلولة دون تعرضها إلى وضع مشابه لوضع العراق. كما أشار هؤلاء إلى أن دعم موسكو لدمشق لم يترك آثارا سلبية في علاقاتها البينية مع الدول العربية المعادية لنظام الأسد. فالقنوات مع الأخيرة بقيت مفتوحة والاجتماعات على أعلى المستويات انعقدت، وصفقات الدفاع والتسليح والاتصالات والطاقة البديلة والتعاون التقني والاستثمارات المشتركة وغيرها وقعت.