المقناص .. الصيد متواصل والوسائل متغيرة
مر الإنسان القديم بتاريخ طويل من القنص أو صيد الحيوانات والطيور لأغراض الحاجة إلى الأكل، وفي كل مرحلة يطور أساليبه ليدخل الغابة بأدوات صيد متجددة، فمن الرماح والخيول قديما إلى السيارات والبنادق حديثا.
ويبدو أن الصيد والقنص يحملان معاني اجتماعية كثيرة، فهي المجال المضمون للإنسان لإظهار قوته ونفوذه وتمكنه، وهي رسالة رمزية إلى الآخرين من جنسه ليستعرض قدراته وقوته، ثم تحولت معاني الصيد والقنص من الحاجة إلى جماليات الحياة للتمتع بأساليب مطاردة الحيوانات والطيور، والاستمتاع بلحمها. ولم تكن منطقة جزيرة العرب منذ القدم في معزل عن أساليب الصيد السائدة، بل كانت مرتعا لأنواع الحيوانات والطيور، وقد كشفت آلاف الرسوم الصخرية عن رسومات لأنواع الحيوانات ورسومات لصيادين يطاردون صيدهم.
يقول ول ديورانت: "إن الصيد عند كثرتنا الغالبة اليوم ضرب من اللهو، نستمد فيه اللذة من بعض الذكريات الغامضة.. ذلك لأن الصيد لم يكن سبيلا إلى طلب القوت وكفى، بل كان كذلك حربا يراد بها الطمأنينة والسيادة.. فليس في الغابة قوت يكفي الجميع، وأحيانا لا يظفر بطعامه إلا المقاتل أو الذي يستخدم لنفسه حيوانا مقاتلا، وها هي ذي متاحفنا تعرض أمام أبصارنا بقايا تلك الحرب التي نشبت بين الإنسان وسائر الأنواع الحيوانية، إذ تعرض أمامنا المُدَى والهراوات والرماح والقسي وحبال الصيد والأفخاخ والمصائد والسهام والمقاليع التي استطاع بها الإنسان الأول أن يفرض سيادته على الأرض، ويمهد السبيل أمام خَلَف لا يعترف بالجميل، ليحيا حياة آمنة".
للمقناص مصطلحات عربية متعددة، مثل الصيد والقنص، وتسمى البيزرة، وهي كلمة فارسية تعني باز، ويقصد بها: استخدام الطيور الجوارح كالصقر والبازي في صيد الحيوانات والطيور بطريقة تجمع بين المتعة والتحدي وأكل اللحوم الطازجة. أما الطرديات فهي القصائد التي موضوعها الصيد. ويطلق المقناص شعبيا على رياضة الصيد في البراري، ثم صار يطلق بشكل محدد على موسم هجرة الطيور ودخولها المناطق الشمالية للمملكة، وهي ظاهرة تستهوي كثيرا من الشباب والكهول، فيستعدون لها مبكرا بتجهيز سيارات الرحلات، وبنادق الصيد، والشباك، ثم تتبع الطيور وصيدها، وطبخها يوميا على وجبتي الغداء والعشاء، وتجميد المتبقي لإهدائه الأهل والأصدقاء، أو لبيعه.
تراث ثقافي
لاحظت أن تراثنا العربي والإسلامي مفعم برصد الظواهر الاجتماعية، وجمع المنتج الأدبي والمعرفي عنها، والقصص والحكايات التي تعكس الواقع الاجتماعي لها، في حين أن عصرنا هذا، لا يعنى بالرصد والتوثيق الشامل، كما هو الحال في التراث، على الرغم من تيسر جميع الإمكانات للملاحظة والبحث والنشر. وفيما يخص ظاهرة المقناص لاحظت كثرة ما كتب عنها منذ القرن الثالث حتى العاشر الهجريين، منها: كتاب "الجوارح والصيد للأمير عبدالله بن المعتز، وكتاب "البيزرة" لبازيار العزيز بالله الفاطمي، وكتاب "الجمهرة في علم البيزرة" لعيسى بن حسان الأسدي، وكتاب "انتهاز الفرص في الصيد والقنص" للناشري الزبيدي.
زمن الوفرة
كانت جزيرة العرب ومنطقة نجد خاصة، قبل انتشار السيارات والبنادق، تتمتع بأراض خصبة ومياه جوفية وفيرة، وبالتالي صارت من أهم مناطق الثروة الحيوانية والزراعية، التي تنتشر فيها رياضة المقناص أو الطرديات منذ عصر الجاهلية إلى وقت قريب، وقد لاحظ ذلك فيلبي عندما زار المنطقة عام 1337هـ/ 1917، وأشار إلى كثرة الحياة الحيوانية، وأنه طارد الغزال بين الأحساء والرياض، وسهولة صيد طائر الحبارى، وأشار إلى كثرة وجود الضب والجربوع، وشاهد النسور، وأشار إلى وجود الغزلان والحبارى والأرانب مرة أخرى في عالية نجد. وهذا الواقع الذي يصفه فيلبي قبل عصر النفط والحداثة الاقتصادية، يفسر جانبا من تولع البادية بحياة الصحراء، ويشرح تعلق أفراد المجتمع برياضة الصيد والقنص. كما أنه يؤكد على وجود توازن بيئي بين وفرة الصيد واحتياجات الناس له، والأدوات المستخدمة فيه، لذلك منحت المجتمع متعة ورياضة مشوقة وتلبية احتياجات غذائية.
لماذا يعشق الناس المقناص؟
سألت عددا من الشباب من هواة الصيد والقنص، المولعين بهذه الرياضة ويتابعون مواسمها ويسافرون من أجلها إلى داخل المملكة وخارجها: لماذا تعشقون الصيد والقنص؟ فتنوعت إجاباتهم بين التسلية، واللحوم الطرية الطازجة.
يبدو لي أن هناك أسبابا مهمة لم تذكر، مثل: وجود لغة تواصل بين الإنسان والحيوان، فأنواع الحمام والصقور وكلاب الصيد والحيوانات البرية، كلها لها طبائع مثل طبائع الإنسان، ويمكن التعرف عليها بالخبرة والمعايشة، ويشعر الإنسان بالاندماج إذا تعرف على لغة يتواصل بها مع الآخرين، من الإنسان والحيوان، لذلك يجد نفسه مضطرا لبذل جهد في التعامل مع لغة كلاب الصيد والصقور، وهما من الحيوانات والطيور القابلة للتدريب ولها أخلاق وعواطف تشبه أخلاق الإنسان وعواطفه، ومن المهم مراعاتها، كما يجد نفسه مضطرا للتعرف على سلوك وعواطف الحيوانات البرية والطيور المهاجرة للالتفاف عليها من أجل صيدها، ومن هنا تنشأ متعة خاصة.
كتب الجاحظ كثيرا عن طبائع الحيوانات والطيور التي يتعامل معها الإنسان، ويشترك في كثير منها معه، كالذكاء والفطنة والكرامة والتحايل والغضب والحقد والرضا...، كما كتب تشارلز دارون عن "التعبير عن العواطف عند الإنسان والحيوان"، ويوجد لغة تواصل عريقة بين الإنسان السعودي وعدد من الحيوانات والطيور كالإبل والذئب والصقر موثقة في الأشعار الشعبية والأمثال اليومية، ولكنها لم تحظ بالدراسة الاجتماعية.
يلحظ من أشعار وأمثال شعراء جزيرة العرب في الجاهلية والتاريخ الإسلامي مسميات لحيوانات كانوا يصطادونها أو يتعاملون معها، وليس لها أي ذكر في الذاكرة الشعبية الحديثة، كالأسود والوعول والحمير الوحشية، وقد كانت هذه الحيوانات تأتي وفق هجرات موسمية إلى مناطق من جزيرة العرب، وتعود إلى إفريقيا، ويشير عدد من الدراسات والروايات إلى أن أهم الأسباب في انقطاع كثير من الحيوانات الإفريقية هو حفر قناة السويس، وهي تتكون من ممر مائي ضخم يتسع لعبور السفن التجارية، يربط بين البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر بطول 193 كيلا، واستمر حفر القناة عشر سنوات، بين عامي (1859- 1869)، ما قطع الطريق البري لهجرة الحيوانات.
وتبقى الحيوانات المستقرة في جزيرة العرب مثل: الوضيحي والمها العربي وأنواع الأسود والحمر الوحشية، فقد قضت عليها وسائل الحضارة والصيد المفرط باستخدام السيارات والسلاح الناري. ويبدو أن الحمر الوحشية كانت آخر الحيوانات انقراضا، إذ كانت موجودة قبل نصف قرن تقريبا، وتردد ذكر عدد من فتاوى الصيد وأنواع الحيوانات في فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم، وربما يعد وصفه للحمار الوحشي من أهمها، إذ يقول: "حمار الوحش كان في جزيرة العرب بكثرة، وهو في أشعار في ذكر القنص، وكذلك في الأحاديث، وخلقته تشبه الحمار الإنسي من كون له حافران وأذنان طويلتان وبقية صفاته، وليس من الأهلي فتوحش، بل هذا جنس مستقل، فالوحش من الطيبات، والأهلي من الخبائث".
يشير المؤرخ المسعودي إلى أن الصيد والقنص رياضة الملوك، فهم أول من ابتكرها في بلاد فارس والروم، ثم انتشرت بعدهم. وهذا يعني أنها رياضة النخب، ويبدو أن النخب حافظوا على نخبوية القنص والصيد وصاروا يمارسونها بطريقة تضمن تمايزهم الاجتماعي، مثل: استهداف أماكن بعيدة ولا يرتادها عامة الناس بسهولة، وبها طيور أكثر ندرة وأصعب في الصيد مثل الحبارى، فهذه السمات تمنحهم التمايز عن غيرهم، ويكون مقناصهم غالبا باستخدام الصقور وكلاب الصيد والأسلحة النارية. وما تزال تقاليد التمايز معمول بها حتى الآن.
رياضة شعبية
تعتمد رياضة المقناص الشعبي على مواسم هجرات الطيور المارة بأراضي المملكة، وأكثرها تمر بالمناطق الشمالية، ومن أبرز الطيور المهاجرة التي تمر بكثرة وتستهوي الشباب ويستطاب طعهما: طائر الدخّل، وموسمه غالبا في نيسان (أبريل)، والقطا وموسم هجرته غالبا في في تشرين الأول (أكتوبر)، وتوجد هجرات تختلف مواسمها من عام إلى عام، مثل: الكرك (الأكحل) والجرجس والصعو والسمان والخواضير والقميري. وجميع هذه الطيور تسمى حمام، يقول الجاحظ في كتاب "الحيوان" بعدما عدد أنواع الحمام: "العرب تسمي هذه الأجناس كلها حماما، فجمعوها بالاسم العام، وفرقوها بالاسم الخاص".
فقد سئل الشيخ محمد بن إبراهيم عن الصيد ببندقية أم صتمة، فأجاب: "هذه يقولون إنها تشق عندما يدفعها الدافع القوي، فتكون مثل البندق التي بالبارود، إذا وجد أنها نفذت، أما إن وجد أنها أصابته بثقلها فلا". وسئل عن الصيد بسلاح الصبيان، وهي النباطة التي تصيب الحمام ولا تقتله، فأجاب: "الظاهر أنها لا تشق فلا يحل، وهو إذا ضرب قد يكسر العظم أو الجناح فلا يمر في البدن ويجرح. المقصود لا يحل هذا، ثم إن الصبي الذي دون التمييز لا تحل ذكاته".
كما يتسلى الشباب بصيد الضبان والجرابيع، وقبلهم كانوا يصيدون الجراد في مواسم معروفة. إضافة إلى هجرة الصقور وهو موسم مهم في تشرين الثاني (نوفمبر) غالبا. وتمارس الطبقة الشعبية أو عامة هواة الصيد، رياضة المقناص باستهداف مواسم هجرة الطيور الصغيرة، باستخدام الشبكات والبنادق الهوائية الخفيفة، لأن صيدهم بالمئات.
يلحظ أنه في السنوات الأخيرة عانت الحياة الفطرية في المملكة من الصيد الجائر منذ انتشار البنادق قبل قرن من الزمان "البنادق موجودة قبل خمسة قرون ولكنها انتشرت لأغراض الصيد في المائة سنة الأخيرة"، فتناقصت أعداد الغزلان والحبارى والوعول بشكل كبير، حتى صيد الطبقة الشعبية استنزف الضبان، ما اضطر مؤسسات الدولة المعنية بسن أنظمة لحماية الحياة الفطرية، وتحديد مواسم للقنص، وأخيرا صدرت أوامر ملكية بتحديد سبع محميات طبيعية في المملكة، من المتوقع أن تسهم في حفظ الحياة الفطرية وحماية البيئة.
وبرزت أخيرا ظاهرة التفاخر بصيد الحيوانات النادرة، كالذئاب، أو الوعول، أو الصيد الكمي مثل مئات الضبان وآلاف الطيور، وعرضها للمجتمع، ويبدو أن هذه الظاهرة ارتبطت بزمن انتشار أجهزة الجوالات المزودة بكاميرات، لسهولة التصوير والبث الفوري. وقد قوبلت باستهجان شعبي، وأطلق عليها مصطلح "الهياط"، أي المبالغة في عمل الشيء بشكل مفرط وخارج عن تقاليد المجتمع وليس له جانب عقلاني أو منطقي. ويبدو أن ظاهرة الهياط في الصيد ارتبطت بالمهمشين أو الذين يعيشون برغبتهم على هامش الحياة، فرأوا أن الصيد في الصحراء أحد مجالاتهم التي يحققون ذواتهم فيها.
تمثل ظاهرة المقناص لجميع ممارسيها، مهما اختلفت طبقاتهم، منجما للتعود على قيم: التحدي والمثابرة والصبر وتكرار المحاولات المتعثرة والتعلم من الأخطاء والإيثار وروح العمل الجماعي والتنسيق واحترام الوقت والسرية. وذلك لأن الطيور والحيوانات سمات إدراكية تعرف بها أنها معرضة للصيد، فتتبع وسائل تخفي وهروب، ما يحفز الصيادين للتعامل مع سلوك الطيور والحيوانات بطرق متنوعة مبنية على اليقظة والتخطيط المستمر. ومن المهم المحافظة على هذه الهواية وتنميتها وتنظيمها، ورصد تراثها الأدبي وطقوس ممارستها.
** علم اجتماع المعرفة "دراسات الحياة اليومية"