ليلى والمجنون .. قصة عشق عالمية
جبل التوباد حياك الحيا
وسقى الله صبانا ورعى
فيك ناغينا الهوى في مهده
ورضعناه فكنت المرضعا
وحدونا الشمس في مغربها
وبكرنا فسبقنا المطلعا
وعلى سفحك عشنا زمنا
ورعينا غنمَ الأهل معا
هذه الربوة كانت ملعبا
لشبابَينا وكانت مرتعا
كم بنينا من حصاها أربعا
وانثنينا فمَحَونا الأربعا
وخططنا في نقى الرمل فلم
تحفظ الريح ولا الرمل وعَى
لم تزل ليلى بعَيني طِفلة
لم تزد عن أمس إلا إصبعا
هذه أبيات قالها أمير الشعراء أحمد شوقي ضمن رائعته الشهيرة "مجنون ليلى"، التي يتحدث فيها عن قصة الحب التي عاشها الشاعر قيس بن الملوح مع ليلى العامرية. وجبل التوباد الذي ذكره يقع ضمن حدود محافظة الأفلاج، ويبعد عن الرياض 300 كيلومتر جنوبا، وهذا اسمه منذ الجاهلية، وفيه يقول قيس بن الملوح حين فقد ليلاه:
وأجهشت للتوباد حين رأيته
وكبر للرحمن حين رآني
وأذريت دمع العين لما عرفته
ونادى بأعلى صوته فدعاني
فقلت له قد كان حولك جيرةٌ
وعهدي بذاك الصرم منذ زمان
فقال مضوا واستودعوني بلادهم
ومن ذا الذي يبقى على الحدثان
وفي هذا الجبل غار يسميه الناس غار قيس وليلى إلى اليوم.
الأثر العالمي:
أثرت قصة قيس وليلى وأشعارهما وما نسب إليهما من أخبار وأشعار في الأدب العربي تأثيرا كبيرا، شعرا ونثرا، وامتد تأثيرها إلى الشعر النبطي والعامي في البلاد العربية. ولا أظن شاعرا أو مهتما في الأدب من العرب إلا وقد قرأ أشعار قيس وقصته. وما قصيدة شوقي السابقة إلا أحد النماذج التي تندرج في هذا السياق. وقد أحصيت مئات الأبيات الفصيحة والنبطية التي استشهد بها شعراؤها بالمجنون وليلاه.
تأثر الأدب الفارسي كثيرا بالأدب العربي وتتلمذ عليه واستفاد منه، وكانت قصة ليلى والمجنون حاضرة في هذا الأدب، وقد نظمت هذه القصة في الأدب الفارسي أكثر من مرة، لكن أبرزها هي الملحمة التي كتبها الشاعر نظام الكنجوي (ت 599هـ)، ويأتي بعدها في الأهمية قصائد لشعراء آخرين مثل سعدي الشيرازي، وأمير خسرو، وعبدالرحمن جامي، وعبدالله هاتفي، ومكتبي، وغيرهم. كما تأثر الأدب الكردي بقصة العشق العربية الخالدة، وأبرز مثال على ذلك ما قاله أمير الشعر الكردي أحمدي خاني في ملحمته "ممو زين". أما في الأدب التركي فأبرز من نظم هذه القصة هو الشاعر محمد بن سليمان الشهير بلقب فضولي، وللدكتور جوبان خضر حيدر بحث بعنوان "ليلى والمجنون في الأدب التركي"، وعد في بحثه هذا 29 شاعرا من شعراء الترك نظموا قصائد عن ليلى والمجنون، ومنهم: أدرني شاهدي، وأحمد باشا ولي الدين بن إلياس، وقد لقب في عصره بسلطان الشعراء، وعلي شير نوائي، وبهشتي أحمد سنان، وحمدي حمد الله ابن الشيخ آق شمس الدين، وخليل بدر الدين، وأحمد رضوان، وحياتي فاتح جلبي.
أما في الآداب العالمية الأخرى فقد كان نظم الشاعر الفرنسي لويس أرغون "مجنون إلسا" على غرار مجنون ليلى، كما أن المستشرق الفرنسي أندريه مايكل كان شغوفا بقصة قيس وليلى، وألف كتابه "مجنون ليلى وتريستان" حول هذه القصة، وأسطورة أخرى شهيرة في الغرب بعنوان تريستان وإيزو. يقول عبد الله الغويل: "لعل قصة مجنون ليل هي من أبرز ما تناوله أدباء الغرب من أدب العرب، فنرى آثارها واضحة عند شعراء التروبادور، وعند كثير من الشعراء والأدباء الأوروبيين المعاصرين"، وتقول زكية إبراهيم الحجي: "ولعل قصة مجنون ليلى كانت أبرز ما تناوله أدباء الغرب من الأدب العربي، وقد وضحت آثارها في شعر كثير من شعراء وأدباء أوروبا المعاصرين، كما أشار إلى ذلك المستشرق الفرنسي أندريه مايكل الذي تعمق في الأدب العربي، وكان يشغل منصب مدير معهد لغات الهند والشرق وشمال إفريقيا في جامعة باريس. يقول المستشرق أندريه: قادتني المصادفات والشغف بأدب الحب العالمي إلى الاهتمام بأسطورة مجنون ليلى العربية.. وأسطورة تعد من أجمل أساطير الغرب في العصر الوسيط، هي قصيدة مجنون إلسا المستوحاة من مجنون ليلى العربية.
مجنون ليلى:
قيس بن الملوح بن مزاحم بن عدْس العامري، من بني عامر بن صعصعة. اختلفوا في اسمه ونسبه، واشتهر بلقب المجنون، أو مجنون ليلى، ولقبه المجنون لذهاب عقله لشدة عشقه، وقيل: بل لقب ببيت قاله. نشأ قيس في ديار قومه بني عامر في نجد، وتدل أشعاره على أنه رعى الغنم وهو صغير مع فتاة صغيرة من قومه هي ليلى بنت مهدي بن سعد، أو ليلى العامرية، فعشقها منذ الصغر ثم زاد حبهما لبعض مع مرور الأيام، وذاع خبر حبه لها، وأشعاره بها، فصار عشقه حديث الناس، فعلم أبوها وكره أن يزوجها له، وأجبرها على الزواج من رجل يدعى وَرْد العقيلي. وقد تألم قيس لزواجها من غيره أشد الألم، وتغيرت مجريات حياته، فهام على وجهه، وأخذ يتتبع ليلى في البراري والقفار، لأنها كانت بدوية ترحل مع قومها. وتروى حول ذلك أخبار عديدة مبكية ومحزنة؛ منها أنه كان يذهل عن كل شيء، فيمشي وليس عليه ما يستر جسده من اللباس، لا يهتم لأمر طعامه أو شرابه، ولا يفيق مما به من الوجد واللوعة، ولا يجيب أحدا إذا سأله، إلا إذا سئل عن ليلى، فينطلق عندها لسانه بالحديث والشعر.
اللقاء الأخير:
يورد الأصفهاني خبر اللقاء الأخير الذي جمع قيس بليلى ينقله عن يونس النحوي الذي يقول: "لما اختلط عقل قيس وترك الطعام والشراب، مضت أمه إلى ليلى فقالت لها: "إن قيسا قد ذهب حبك بعقله، وترك الطعام والشراب، فلو جئتِه وقتا لرجوت أن يثوبَ إليه بعض عقله، فقالت ليلى: أما نهارا فلا، لأنني لا آمن قومي على نفسي، ولكن ليلا، فأتته ليلا، فقالت له: يا قيس! إن أمك تزعم أنك جننت من أجلي، وتركت المطعم والمشرب، فاتق الله وأبق على نفسك، فبكى وأنشأ يقول:
قالت جننت على أيش فقلت لها الحب أعظم مما بالمجانين
الحب ليس يفيق الدهرَ صاحبه وإنما يصرع المجنون في الحين
قال: فبكت معه، وتحدثا حتى كاد الصبح أن يسفر، ثم ودعته وانصرفت، فكان آخر عهده بها". وكانت ليلى تعشقه، وأصابها من اللوعة وحرقة الفراق ما أصابها، لكنه لا يقارن بما أصاب إمام العشاق العذريين، وسيد الحب.
دعوة:
هذان ليلى وقيس، وهذه قصتهما التي لهجت بذكرها شعراء البشرية، هما من أرضنا، من بلادنا، من تراثنا، شعرهما هو شعرنا ونحن أقدر الناس على فهمه، بيئتهما هي بيئتنا، تنفسا الهواء الذي نتنفسه، وعاشا ومشيا في الصحاري والجبال والوديان وبين النباتات والأشجار التي نعرفها نحن أكثر من غيرنا. أتمنى من كل الجهات ذات الاختصاص؛ الأدبية والثقافية والإعلامية وغيرها أن تهتم بهذا الإرث العظيم الذي لا نظير له في البلاد الأخرى. وأروي في الختام قصة حدثت قبل عقود، ولا أعرف تاريخها بالتحديد، فقد جاء عدد من أدباء مصر وقابلوا الملك عبدالعزيز وكان فيما قالوه له إن أرضكم وبلدكم هي منبع الشعر واللغة، وكل شعراء المعلقات وفحول الشعراء من أرضكم، وفي هذا الشعر كثير من الأشياء التي لا يفهمها إلا أهل هذه الأرض، ولا يعرف الأماكن الواردة في القصائد، ويستطيع تحديدها بدقة إلا أنتم. وكان الملك عبد العزيز مؤيدا لكلامهم، ثم طلب بعدها من بعض أدباء السعودية أن يهتموا بهذا الأمر، من بينهم الشاعر والأديب محمد بن عبدالله بن بليهد الذي ألف كتاب "صحيح الأخبار عما في بلاد العرب من الآثار" لهذا الغرض. وقد صدرت طبعته الأولى عام 1370هـ/ 1951.