استقرار التوطين وإمكانية زيادته
في الوقت الذي تتخلى خلاله أسواق العمل حول العالم عن عشرات الملايين من الوظائف، وتتصاعد معه معدلات البطالة فيها بصورة غير مسبوقة منذ الكساد الكبير، فإن الوضع قد يكون مختلفا كليا في سوق العمل المحلية، التي تمتلك مرونة أكبر مقارنة بتلك الأسواق في الخارج، تتركز في ارتفاع معدلات توظيف العمالة غير المواطنة بمعدل يناهز ثمانية أفراد من العمالة الوافدة بين كل عشرة أفراد، مقابل عاملين اثنين كعمالة مواطنة على مستوى إجمالي الوظائف المتاحة في القطاع الخاص.
تتيح هذه المرونة إمكانية كبيرة جدا أمام منشآت القطاع الخاص، لتقوم بالمحافظة إلى حد بعيد جدا على وظائف العمالة الوطنية "1.7 مليون عامل من الذكور والإناث"، وتوفير الاستقرار اللازم لهم في وظائفهم المتعاقد معهم لأجلها، وفي حال اضطرت أي منشأة من منشآت القطاع الخاص إلى تقليص أعداد العمالة لديها في مواجهة تداعيات الأوضاع الاقتصادية الراهنة غير المواتية، فلا بد أن يتم تقييد تلك القرارات كافة بصورة بالغة الحزم والتقويم، وأن تخضع لضوابط مشددة تتولى الإشراف عليها وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية، ترتبط تلك الضوابط المشددة بعديد من الاعتبارات والشروط، ليس المجال متاحا هنا لتحديدها على وجه الدقة، إنما يمكن وضعها في إطار عام كنقطة انطلاق، يمكن أن تستند إليها الوزارة وفرق العمل الفاعلة لديها والمسؤولة عن هذا الجانب التنموي المهم جدا.
تبدأ تلك الاعتبارات من معدل التوطين في كل من النشاط الذي تنتمي إليه المنشأة، وفي المنشأة ذاتها، فكلما كان المعدل منخفضا ضاقت خيارات الاستغناء عن العمالة الوطنية، وتم الاعتماد بخصوص أي قرارات بالاستغناء عن جزء من العمالة لتقليص تكاليف الأجور على الرصيد المتاح من العمالة الوافدة، والتأكيد هنا مجددا؛ أن الأمر يجب أن يتسم بالإلزام، ويقترن بإيقاع أشد العقوبات والجزاءات والغرامات على المنشآت المخالفة. والأمر هنا كما هو واضح بصورة جلية، لم يذهب إلى حرمان أي منشأة تتوافق أوضاعها مع هذه الضوابط من حقها في الاستغناء عن العمالة الفائضة لديها، والتكيف من ثم مع الظروف والمستجدات الراهنة نتيجة تداعيات الأزمة الاقتصادية العالمية، إنما قيدت تلك القرارات مرحليا وربطتها بمستوى التوطين الذي تقف عليه، فليس من المقبول في ظل الظروف والمخاطر العالية الراهنة التي تواجهها الاقتصادات والمجتمعات، أن يتم السماح بارتفاع معدلات البطالة بين المواطنين بوتائر متسارعة وسط هذه المراحل بالغة التعقيد، وما قد يترتب عليها من ارتفاع معدلات المخاطر، في الوقت ذاته الذي تتوافر لدى تلك المنشآت خيارات واسعة وكبيرة جدا بالاستغناء عن العمالة الوافدة لديها، وتحقيق أهدافها في التكيف السريع مع التقلبات الجارية.
أؤكد أن آلية كهذه بدءا من إقرارها ووصولا إلى تنفيذها، والعمل على متابعة ومراقبة مستجداتها داخل أروقة منشآت القطاع الخاص، تتطلب جهودا إضافية وسرعة أكبر من لدن الأجهزة الرقابية في وزارة الموارد البشرية، وأن على جميع منسوبي فرق العمل الرقابية التذكر الدائم والمستمر أن نجاحهم في هذا الاتجاه يشكل جدارا حاميا لاستقرار الاقتصاد الوطني والمجتمع، لا تقل أهميته القصوى عن الجهود الوطنية العظيمة التي يبذلها رجال ونساء بلادنا في مختلف الاتجاهات العسكرية والأمنية والطبية.
نأتي الآن إلى بقية المستويات الأدنى؛ في القطاعات والمنشآت التي يتوافر فيها معدلات توطين مرتفعة جدا، وهو ما يعني تقلص فرص الاستفادة من الخيار السابق المشار إليه أعلاه، هنا يمكن الاعتماد على قيام صندوق الموارد البشرية "هدف" بمشاركته تلك المنشآت بدفع حصص من الأجور المدفوعة لتلك العمالة الوطنية، وتكون نسب تلك الحصص مرتبطة بتفاصيل تتعلق بمعدلات التوطين، ومستويات تحمل تلك المنشآت، فالعامل الذي قد تضطر المنشأة إلى إنهاء عقده في بداية الأزمة، ليس كالعامل الذي قد تتكرر معه الحالة بعد أشهر عدة تالية، وكذلك الحال بالنسبة إلى العمالة حسب مستوياتهم الوظيفية وحجم أجورهم الشهرية، التي تتزايد، وصعوبة أوضاعهم كلما ارتفعت تلك المستويات والأجور، وهي التفاصيل العديدة التي لن يتسع المجال هنا للحديث عنها، ويكتفى بإيصال وتوضيح فكرتها الرئيسة. كل ذلك لا بد من إيجاد بدائله الآمنة اقتصاديا ومجتمعيا، والتأكيد مجددا أنه مهما بلغت التكاليف المادية للوفاء بتلك البرامج الواقية من حدوث أي بطالة وارتفاعها محليا، فإنها تظل تكاليف أدنى بكثير من تكاليف ومخاطر ارتفاع معدل البطالة والسماح بتسارع وتيرة نموه.
ختاما؛ اعتدت وغيري كثيرون من المهتمين والمشاركين في الكتابة والحديث عن المواضيع ذات الصلة بسوق العمل المحلية والبطالة، على سرعة تجاوب وتواصل الإخوة الأفاضل العاملين في وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية، بدءا من الوزير ووصولا إلى جميع زملائه العاملين بهمة وجهود دؤوبة، وهو ما يستحقون عليه وعلى بقية جهودهم الكبيرة في هذا الشأن الوطني المهم، الشكر والتقدير، آملا أن تحظى هذه المقترحات في خطوطها العريضة بالاهتمام اللازم، وأن تتكامل الجهود كافة، سواء من الأجهزة الحكومية الأخرى أو القطاع الخاص أو المهتمين والمختصين، للوصول بمقدرات سوق العمل المحلية إلى بر الأمان، وأن نعبر جميعا صعوبات وتحديات المرحلة الراهنة بأقل قدر ممكن من الخسائر والتكاليف.