الادخار .. الثقافة الغائبة
يشكل مفهوم الادخار، إحدى أهم الممارسات في اقتصاد الدول، فهو ظاهرة اقتصادية أساسية في حياة الأفراد والمجتمعات، ويعد فائض الدخل عن الاستهلاك، وأول خطوة في طريق الاكتفاء المالي. لذلك، ومنذ أكثر من 90 عاما، يحتفل العالم باليوم العالمي للادخار في 31 تشرين الأول (أكتوبر) كل عام، لنشر الوعي بين المجتمعات عن هذا السلوك الذي لا غنى لأحد عن اتباعه. وتحرص عديد من الجهات على تقديم نشاطات ومحاضرات متنوعة للحث على الادخار والتوفير، وهذا الاهتمام لا يأتي من فراغ، بل إن الادخار بمنزلة الهواء للنظام المالي، ومن دونه يفقد قدرته على البقاء، وإذا تأثرت قدرة النظام المالي على الحياة، فإن الاقتصاد بمكوناته كلها يصبح عرضة لمشكلات لا حصر لها.
فانخفاض معـدلات الادخـار، يؤدي إلى انخفاض الودائـع طويلـة الأجـل للقطـاع المصرفـي، وبالتالي معدلات الاستدامة ومعدلات الكفاءة ما يخفض من قدرات البنوك على ممارسة مهامها في الإقراض الصناعي وغيره، بل حتى من قدرتها على شراء السندات الحكومية والتمويل العام، وهذا يؤدي حتما إلى ضعف بنى الاقتصاد عموما، لذا يهتم العالم وأهل الاقتصاد به. والادخار ليس الكنز، والفرق بينهما كبير، فالادخار أداة من الأدوات المالية التي يتم بها الحصول على الأموال وضخها ضمن النظام المالي، وليس مجرد حفظ الأموال في خزانة المنزل أو المكتب، وهذا شرحه يطول.
تؤكد الدراسات، التي تمت من أجل تطوير برنامج القطاع المالي، وهو أحد برامج رؤية المملكة 2030، أن معدل الادخار لدى الأسر السعودية، من أدنى المعدلات في العالم، وبينما تأتي الصين والهند في مقدمة العالم، فإن النسبة الحالية في المملكة لم تتجاوز 2.4 في المائة من دخل الأسر، بينما تعادل 40 و23 في المائة في الصين والهند على التوالي، وهما دولتان أكثر كثافة سكانية من المملكة، وهذا يدل إلى ضعف ثقافة الادخار والاهتمام به عند الأسر السعودية، ما يشكل تحديا كبيرا، خاصة أن برنامج القطاع المالي يستهدف رفع هذه النسبة إلى 29 في المائة، وهي قفزة موضوعية.
وتعد هذه الزاوية أحد أبرز التحديات التي تواجه تطبيق أهداف برنامج تطوير القطاع المالي.
لكن رغم أنه تحد، إلا أنه ممكن إذا تم التخطيط له بعناية كافية، خاصة أن محور الاقتصاد المزدهر الذي يعد أحد محاور الرؤية يضع تعزيز وتمكين التخطيط المالي، مثل الادخار، هدفا استراتيجيا بالغ الأهمية. والمسألة تتعلق اليوم بالأدوات التي يتم من خلال تعزيز هذه الثقافة، حيث أكدت بعض الدراسات والتقارير أن الثقافـة الماليـة لدى البالغين في المملكة لا تزال منخفضـة مقارنـة بدول مماثلـة، فلم تتجاوز 30 في المائة، بينما أكثر من 71 في المائة في السويد، مثلا.
ولعل أبرز التحديات التي كانت تواجه الأسر، ضعف الوصول إلى النظام المالي، بمعنى عدم تمكنها من فتح حسابات في البنوك، وعدم وجود فروع قريبة، أو عدم وجود أجهزة الصرف في عديد من المناطق، وهذا يسمى الشمول المالي، وهو أحد أهم أركان برنامج القطاع المالي، بل إحدى أهم القضايا التي تؤكدها المؤسسات الدولية.
بذلت مؤسسة النقد جهودا كبيرة في سبيل تعزيز الشمول المالي، من خلال تحسين البيئة الرقمية للمعاملات المالية، وتحسين إجراءات الدفع الإلكتروني، وتخفيض نسبة النقد الورقي في التداول، فهذا في مجمله سيحسن من الثقافة المالية ويعزز من تحول كثير من الأسر السعودية إلى فتح الحسابات واستخدام النظام المالي في التعاملات، ما يعزز من فرص الوصول إليهم وتعزيز الثقافة المالية، ودور الادخار في حياتهم.
من المهم تعزيز ثقافة الادخار في المجتمع، من خلال تطوير منتجـات التأميـن الموجهـة نحـوه، وهذا يتطلب من البنوك وشركات التأمين تطوير منتجات تناسب البيئة السعودية، حيث توفـر منافـع مستقبلية مع مستويات مقبولة متدنية من المخاطرة، وتحفيز الأسر نحو بناء نماذج من التأمين الإضافي للتقاعد بما يحسن الوضع التقاعدي، كما يجب على البنوك تشجيع الودائع طويلة الأجل، عن طريق دعم فكرة برامج الاستقطاع التلقائي، وفتح قنوات مشاركة في الأرباح، فثقافة الادخار لن تتطور في المملكة ما لم يشعر المواطن بأنها تمثل فائدة اقتصادية مباشرة عليه، وغير مباشرة على المجتمع والوطن، ويجب أن تصل إليه الرسالة واضحة بهذا الشأن.