الاقتصاد الرقمي قوة محركة للنمو في الصين بـ 5.5 تريليون دولار .. 40 % من الناتج
في أواخر 2019 ضرب وباء كورونا مدينة ووهان الصينية، وفي الأيام الأخيرة من كانون الثاني (يناير) 2020 ومع خروج المرض عن نطاق السيطرة، نفذت الحكومة الصينية تدابير صارمة مثل التباعد الاجتماعي والإغلاق، لوقف انتشار الفيروس.
تلك الإجراءات أدت إلى انخفاض كبير في الأنشطة التجارية والاقتصادية غير المتصلة بالإنترنت بشكل كثيف، مثل المطاعم والفنادق ودور السينما والمتنزهات والمتاجر.
في المقابل ارتفعت الأنشطة الاقتصادية والتجارية عبر الإنترنت، وفي مقدمتها بالطبع التجارة الإلكترونية، وبذلك لعب الاقتصاد الرقمي مستفيدا من خلوه من الاتصالات المباشرة بين البائع والمستهلك دورا مهما كعامل في استقرار الاقتصاد الصيني خلال فترة الجائحة.
نجاح الاقتصاد الرقمي الصيني خلال عام 2020 دفع عديدا من الخبراء إلى البحث عن القدرة الحقيقية له للتغلب على الأوجه المتعددة لعدم اليقين والتعقيدات التي تعترض طريق النمو الصيني، خاصة في ظل الاستقرار الاستراتيجي لهذا القطاع نتيجة الدعم الحكومي له.
يرتبط السؤال الأول الذي يحدد أهمية الاقتصاد الرقمي ضمن الهيكل الاقتصادي الصيني بمعرفة القيمة الحقيقية له مقارنة بالقيمة الإجمالية للاقتصاد الصيني.
ولـ"الاقتصادية" يعلق الدكتور إم. سي. جاك أستاذ الاقتصاد الدولي في جامعة جلاسكو قائلا، "الناتج المحلي الإجمالي الصيني يراوح بين 14 و15 تريليون دولار، والرقم الرسمي المعلن يصل إلى 14.7 تريليون دولار، وفي الواقع فإن الفرق بين الناتج المحلي الإجمالي في الصين والولايات المتحدة أكبر اقتصاد في العالم يبلغ نحو ستة تريليونات دولار، ومن المتوقع أن يستغرق الأمر بين ثمانية وعشرة أعوام حتى يلحق الناتج المحلي الصيني بنظيره الأمريكي".
ويضيف، "الاقتصاد الرقمي الصيني تبلغ قيمته الإجمالية نحو 5.5 تريليون دولار، ويمثل حاليا ما يراوح بين 35 و40 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، بمعدل نمو أعلى بثلاثة أضعاف من الاقتصاد الصناعي التقليدي، وذلك وفقا للبيانات الرسمية الصادرة عن أكاديمية الصين للمعلومات. وتخطط الصين لأن يمثل الاقتصاد الرقمي نحو نصف الناتج المحلي الإجمالي ويصبح المحرك الرئيس للنمو الاقتصادي بحلول عام 2027".
يشير عديد من المؤشرات إلى أن التكنولوجيا الرقمية تعمل على تغير الاقتصاد الصيني بطريقة سريعة سواء بجعله أكثر ملاءمة ومرونة للتغيرات الاقتصادية الدولية، أو عبر زيادة الكفاءة الإنتاجية وخفض التكاليف، وكذلك عبر استبدال العمالة، وهذا أمر مهم بشكل خاص للصين.
فعلى الرغم من ضخامة عدد السكان فإن الشيخوخة السكانية متسارعة في عديد من القطاعات، ويعدها البعض أكبر تحد محلي يواجه الصين، إذ سيرتفع عدد السكان الذين تزيد أعمارهم على 65 عاما من 200 مليون الآن إلى 400 مليون بحلول عام 2049.
كما سيرتفع عدد السكان الذين يبلغون من العمر 85 عاما فما فوق من أقل من 50 مليون اليوم إلى أكثر من 150 مليونا عام 2049، كما سينخفض عدد السكان بشكل طفيف، ومن ثم فإن الانتقال إلى الاقتصاد الرقمي بشكل سريع وعبر إحلال الروبوتات والذكاء الاصطناعي محل العمالة يساعد على تخفيف مشكلة نقص العمالة مستقبلا.
مع هذا يشدد جاك أويفر الخبير الاقتصادي في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية على ضرورة تفادي الخلط بين الاقتصاد الرقمي واقتصاد الإنترنت، مبينا أن الاقتصاد الرقمي أوسع نطاقا وأكثر إنتاجية، وأن اقتصاد الإنترنت لا يمكنه تغطية موضوعات يغطيها الاقتصاد الرقمي الذي يعتمد على البنية التحتية الرقمية والتحول الرقمي للتصنيع التقليدي.
ويقول لـ"الاقتصادية"، "تم إطلاق أول منصة للتجارة الإلكترونية في الصين وهي منصة علي بابا في حزيران (يونيو) عام 2003 وذلك قبل شهر من إعلان منظمة الصحة العالمية احتواء تفشي مرض السارس. والتجارة الإلكترونية جزء رئيس في الاقتصاد الرقمي، لكن التجارة الإلكترونية لم ترتفع حتى عام 2013 عندما أصبحت الهواتف الذكية وشبكات 3G و4G متاحة على نطاق واسع، وبحلول عام 2019 كان التسوق عبر الإنترنت قد تجاوز بالفعل ربع إجمالي مبيعات التجزئة الصينية، ومع هذا يمكن القول إن الاقتصاد الرقمي في الصين لا يزال في مراحله الأولى من النمو، ولا يزال كيانا صغيرا مقارنة ببيئته المستقبلية".
وفي الواقع فإن منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية تشير إلى أن الاقتصاد الرقمي في الدول المتقدمة سيتجاوز 62 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2030، وهو ما يمثل النمو المتوقع للاقتصاد الرقمي في الصين، وبالفعل فقد وضع الاقتصاد الرقمي الصيني في منافسة مع الاقتصادات الكبرى الأخرى. ويتجسد ذلك تحديدا في الطفرة الراهنة في معاملات التجارة الإلكترونية في الصين التي قفزت من أقل من 1 في المائة من الإجمالي العالمي في عام 2005 إلى أكثر من 40 في المائة أي أكبر من إجمالي الولايات المتحدة وألمانيا وفرنسا واليابان والمملكة المتحدة.
وتتوقع الخبيرة الاستثمارية آنا واطسون أن يعيد الاقتصاد الرقمي هيكلة وتركيب السوق المحلية في الصين عبر عدد من القنوات التي ستترك بصماتها على التطور الاقتصاد الصيني.
وتؤكد لـ"الاقتصادية" أن أبرز ما نجحت فيه الرقمنة الاقتصادية أنها خفضت الوساطة وقللت الطبقات المرتبطة بعملية التوزيع عبر الربط المباشر بين العرض والطلب، كما ساعد الاقتصاد الرقمي على بروز عديد من الشركات الصغيرة نتيجة التراجع الكبير في حواجز الدخول في عديد من القطاعات خاصة السلع والخدمات الاستهلاكية، حيث ترتبط الشركات الصغيرة بقاعدة مستهلكين كبيرة وبتكلفة منخفضة.
لكنها ترى أن تنامي الاحتكار في مجال المنصات الرقمية في الصين ووجود عدد قليل من الشركات التي تسيطر على فضاء الاقتصاد الرقمي مثل علي بابا وتين سنت، خصوصا سيطرتها على قطاع الدفع المالي عبر التقنيات المالية الحديثة، يمثل خطرا حقيقيا ويؤدي إلى تشوهات سعرية ناجمة عن نقص المنافسة.
مع هذا لا يزال هناك جدل واسع حول تأثير تنامي قطاع الاقتصاد الرقمي في المساواة في الأجور في الصين. فمن ناحية يمكن للرقمنة الاقتصادية أن تساعد على الحد من الفقر بربط الموردين في المناطق النائية بأسواق المستهلكين في العالم، فمنصة على بابا على سبيل المثال أسهمت في تطوير أكثر من 1300 قرية صينية.
لكن في المقابل يتهم البعض الاقتصاد الرقمي بتأثير مدمر في العمالة غير الماهرة، لمصلحة العمالة الماهرة التي ستجد مزيدا من الوظائف وستحقق زيادة ملموسة في الأجور ما يؤدي إلى توسيع الفجوة في الدخول.
مع هذا يقول الدكتور ريدلي كارتر أستاذ النظم الاستثمارية في جامعة لندن، "في الوقت الراهن يسهم الاقتصاد الرقمي في زيادة فجوة الدخول في الصين وينحاز أكثر لمصلحة الفئات الأكثر ارتباطا بآليات الاقتصاد التكنولوجي، لكن مع التحول الكامل للاقتصاد الرقمي في الصين فإن تلك الفجوة ستتراجع وسيظهر الاقتصاد درجة أعلى من المساوة لاحقا".
يشار إلى أن شركة علي بابا الصينية للتجارة الإلكترونية تحظى بشعبية هائلة في الصين، وفي عديد من الأقطار الأخرى، كما تتمتع بثقل اقتصادي ضخم لا يمكن إنكاره، إذ حققت العام الماضي عائدات بقيمة 72 مليار دولار.
وتنال الشركة إشادة واضحة من الخبراء باعتبارها أحد رموز التفوق الصيني في مجال التجارة الإلكترونية، كما تتمتع بحظوة في الدوائر الرسمية باعتبارها المنافس الصيني لشركة أمازون الأمريكية.
كل هذا التقدير والمكانة لم يشفع لها عند الحكومة الصينية، فتاريخ الشركة التي تعد المؤسس الحقيقي لصناعة التكنولوجيا في الصين، وشعبيتها التي تتجلى في هيمنتها على السوق المحلية حيث يستخدمها أكثر من 800 مليون مستخدم في الصين وحدها، لم يمنع الحكومة الصينية من تغريمها مبلغ 2.8 مليار دولار أي نحو 4 في المائة من الإيرادات المحلية للشركة عام 2019، بتهمة إساءة استغلال وضعها في السوق الصينية لأعوام، بتقييد التجار عن ممارسة الأعمال التجارية وإدارة العروض الترويجية على منصات منافسة.
تلك الخطوة جرس إنذار لجميع شركات التكنولوجيا الصينية بضرورة إعادة النظر في أوضاعها "الاحتكارية" في السوق الصينية، ولم تعول الحكومة على فهم المسؤولين في شركات التكنولوجيا الصينية الرسالة، إذ استدعت المسؤولين في 34 شركة رائدة في مجال التكنولوجيا في الصين لإبلاغهم رسالة واحدة "احذروا واجعلوا "علي بابا" درسا لكم".
شركة علي بابا لم تجادل كثيرا، إذ أسرعت شركة المدفوعات الرقمية "آنت جروب" التابعة لشركة علي بابا إلى الإعلان عن خطة لإعادة هيكلة جذرية ستتصرف بمقتضاها كبنك أكثر من كونها شركة مدفوعات رقمية.
تعلم السلطات الصينية أن شركات التكنولوجيا بمنزلة الأوزة التي تبيض لها ذهبا، ولن يكون في مصلحتها ذبحها، لكنها تعلم أيضا المخاطر الاقتصادية والسياسية الناجمة عن عدم كبح الطابع الاحتكاري لتلك الشركات، إذ سيعوق ذلك نمو الشركات الصغيرة، وفي الوقت ذاته سيتيح لـ"علي بابا" وغيرها من شركات التكنولوجيا الصينية الانفراد بتحديد الأسعار، ما يمثل استغلالا للمستهلكين.
بطبيعة الحال يعتقد كثير من الخبراء أن القرارات الصينية التنظيمية ضد شركات التكنولوجيا الوطنية - أيا كانت دوافعها - قد تترك بصمة سلبية على قدرة الصين على الصعود كقوة تقنية عالمية عظمى، وستحصر الشركات الصينية في الإطار المحلي وتعوق جهودها في التوسع عالميا، لتجد الصين نفسها عالقة في فقاعة محلية وغير قادرة على المنافسة دوليا بشكل متزايد.