مؤشرات مضطربة وتضخم منفلت
يبدو أن تقديرات البنك المركزي الأوروبي لمستويات التضخم في منطقة اليورو غير دقيقة حسابيا، وهذا أمر ليس غريبا في حقبة اقتصادية مضطربة يعيشها العالم بسبب تداعيات خلفتها جائحة كورونا على الساحة العالمية. وكغيره من البنوك المركزية الأخرى، يسعى المسؤولون في البنك الأوروبي إلى وضع معدلات التضخم المتسارعة تحت السيطرة قدر الإمكان، حتى في زمن الأزمات، كما أنهم يضعون حدا أعلى له، على ألا يتجاوزه حفاظا على السياسة الاقتصادية العامة التي يضعها.
لكن التضخم ارتفع في منطقة اليورو، التي تضم 19 دولة في الشهر الجاري إلى أعلى مستوى خلال عشرة أعوام، في حين ترجح جهات مختلفة أن يواصل ارتفاعه، الأمر الذي سيزيد من حدة التحديات، التي يواجهها "المركزي الأوروبي" برئاسة الفرنسية كريستين لاجارد، المعروفة بسياستها المتشددة لمواجهة تحديات مستويات معدلات التضخم، التي أصبحت قضية مستفحلة عالميا وليست أوروبيا.
الحد الأعلى الذي وضعه البنك المركزي الأوروبي للتضخم يقف عند 2 في المائة، أو متأرجحا عند هذا المستوى، إلا أن أسعار المستهلكين ارتفعت الشهر الحالي إلى 3 في المائة، بينما سجلت في الشهر الماضي 2.2 في المائة.
المشكلة أن "المركزي الأوروبي" كان يعد بأن الارتفاع فوق المستوى المأمول للتضخم سيكون عابرا، إلا أن المؤشرات تدل على عكس هذا الاستنتاج، في الوقت الذي تسعى فيه حكومات منطقة اليورو للخروج بأسرع وقت ممكن من تبعات الأزمة الاقتصادية، التي خلفها فيروس كوفيد - 19، خصوصا المحافظة على التوازن الاقتصادي، بعد سلسلة كبيرة من مخططات الدعم، التي نفذت العام الماضي، أي أن الوضع الاقتصادي الأوروبي ليس مستقرا، كما ينبغي حتى الآن بسبب الجائحة.
السبب الرئيس وراء ارتفاع التضخم وانفلاته على ساحة منطقة اليورو، أن تكاليف الطاقة عززت هذه الزيادة، كما أن أسعار الغذاء ارتفعت هي الأخرى، إلى جانب زيادات كبيرة على نحو غير مألوف في أسعار السلع الصناعية، وذلك وفق مكتب الإحصاء الأوروبي "يوروستات". ونلاحظ أن أربع دول فقط ضمن منطقة اليورو سجلت تضخما دون 2 في المائة، وكان عدد هذه الدول 16 دولة في آذار (مارس) الماضي، أي أن القفز فوق الهدف، الذي وضعه البنك المركزي للتضخم، تجاوزته 12 دولة في غضون خمسة أشهر تقريبا.
في حين بلغ التضخم في ألمانيا، التي تتمتع بأكبر اقتصاد أوروبي، 3.9 في المائة، وهو الأعلى على الإطلاق منذ 25 عاما، ويتأرجح التضخم في دول مثل بلجيكا وليتوانيا وإستونيا بين 4.5 و5 في المائة. ووفق المؤشرات في الدول التي تشهد أكبر ارتفاع في التضخم، فإن الأمور تسير نحو الارتفاع في الفترة المقبلة، لكن الأهم هنا، الضغوط التي تمارسها ألمانيا على البنك المركزي الأوروبي، من أجل الاجتهاد في خفض مستويات التضخم. فالمعروف أن الحكومة الألمانية توجه الانتقادات تلو الأخرى لهذا البنك منذ أعوام، وترى برلين وجود بعض الاختلافات بين رؤيتها لمعالم مستقبل الاقتصاد الأوروبي وتحديدا اقتصاد منطقة اليورو، وبين الرؤية التي يسير عليها البنك المركزي الأوروبي.
في كل الأحوال، سيحاول "المركزي الأوروبي" خلال الفترة المقبلة السيطرة ما أمكن على مؤشرات التضخم المخيف اقتصاديا، خصوصا أنه يستعد لاجتماع قريب يختص بسياسته المتبعة لشراء السندات.
لكن الأمر لن يكون سهلا في ظل حراك التعافي، الذي تشهده منطقة اليورو، فارتفاع أسعار المستهلكين يتأثر بكثير من العوامل، وليس فقط بمعدلات الفائدة، وبارتباك سلاسل الإمدادات، بل أيضا ارتبط الارتفاع الأخير بعودة بعض دول منطقة اليورو إلى العمل بمستويات ضريبة القيمة المضافة، التي كانت قبل جائحة كورونا، بعد أن كانت قد خفضتها خلال فترة الوباء.