خريطة التحالفات تتغير
لا تزال صفقة الغواصات النووية بين الولايات المتحدة وأستراليا تلقي بظلالها على الساحة الدولية، بعد أن تسببت في أزمة دبلوماسية بين فرنسا وأستراليا من جانب، وفرنسا وأمريكا من جانب آخر. ويرى مراقبون أن تبعات الأزمة الراهنة ولجوء واشنطن إلى تحالف ثلاثي مع المملكة المتحدة وأستراليا، وتزويد أستراليا بغواصات تعمل بالطاقة النووية، تؤزم الخلاف بين أوروبا وأمريكا، وأن صفقة الغواصات قد تعيد تشكيل نوعية التحالفات في العالم وتغيير خريطتها.
لا شك في أن خسارة فرنسا للصفقة التي وقعتها قبل نحو خمسة أعوام مع أستراليا لتزويد الأخيرة بغواصات تعمل بالطاقة التقليدية، ضربت علاقة باريس بحكومة كانبيرا. وهذه النقطة في الواقع الأقل خطورة من توتر العلاقات بين باريس وكل من لندن وواشنطن. لماذا؟ لأن بريطانيا والولايات المتحدة لم تكتفيا بسحب الصفقة الأسترالية من فرنسا، بل شكلتا نوعا من التحالف العسكري الاستراتيجي الجديد من نوعه مع الحكومة الأسترالية في خريطة التحالفات الغربية، خاصة في ظل تمسك بعض الدول الأوروبية في تأسيس قوى عسكرية أوروبية موازية لحلف الناتو.
اهتزت العلاقات الغربية عموما من جراء هذه الصفقة، ليس من جهة الخسائر المالية، بل من ناحية الخسائر المعنوية والروابط القديمة. والغريب أن هذا الاهتزاز جاء في وقت تنفس الغرب الصعداء لرحيل دونالد ترمب من البيت الأبيض، على اعتبار أن هذا الأخير أوجد توترات واسعة في كل المجالات مع "حلفائه" الغربيين التقليديين.
الجانب الأهم في المسألة كلها التي ظهرت على الساحة فجأة، هو التحالف الأمني الاستراتيجي الذي أعلنت واشنطن تشكيله مع كل من بريطانيا وأستراليا، في منطقة المحيطين الهندي والهادئ. وهو تحالف يستهدف الوقوف في وجه التوسعات الصينية في المنطقة، التي بلغت مستويات اعتبرتها واشنطن في عهد ترمب وخليفته جو بايدن، تهدد أمن العالم، وبالطبع توجه تهديدات للمصالح الغربية في هذه المنطقة الحيوية. اتفاقية "أوكوس" أو AUUKUS "اختصار لأسماء البلدان الثلاثة"، ضعضعت في الواقع، ولو لفترة قصيرة مكانة حلف شمال الأطلسي "الناتو"، الذي أخذ زمام الأمن والمبادرة العسكرية في العالم منذ تشكيله كقوة تصون ما يصفه الأمريكيون بـ"المعايير الغربية". فرنسا دولة محورية ليس فقط ضمن نطاق الحلف المشار إليه، بل في صناعة القرار العالمي، والمشاركة في التوازن الدولي، أضف إلى ذلك أهميتها على الساحة الأوروبية على المستويين السياسي والاقتصادي. ويتخوف الجميع من أن تمتد آثار الخلاف على المستوى الاقتصادي والتجاري بحكم القوة الاقتصادية التي تتمتع بها الدول التي لها علاقة بالصفقة الاقتصادية وتتسع دائرة الخلاف بشكل كبير، ولربما دخل في دائرة المقاطعات التجارية والاقتصادية المعروفة.
والسؤال المطروح هنا، هل تصدع التحالف الغربي التقليدي من جراء صفقة عسكرية خسرتها دولة محورية؟ لا شك أن هذا التحالف اهتز، ولكنه لم يصل إلى مرحلة التمزق العميق، لأسباب عديدة، في مقدمتها أن الدولة الغربية لا تقوى على تحمل هذه الحالة المعقدة، في الوقت الذي تتماسك فيه قوى صاعدة مهددة ضاغطة على الساحة العالمية، تحديدا الصين التي لا تزال واشنطن تنظر إليها برؤية إدارة ترمب نفسها التي فكرت يوما بضربها عسكريا. وهذا ما يفسر أن اتفاقية "أوكوس" بين لندن وواشنطن وكانبيرا، لم تكن حلفا بقدر ما هي اتفاق لمواجهة مخاوف أمنية إقليمية نمت بشكل سريع. والواضح أن المصالح الغربية عموما، والتشابكات التاريخية بين أوروبا خصوصا والولايات المتحدة، لا يمكن أن تنهار نتيجة خسارة صفقة بصرف النظر عن حجمها. كل الذي سيحدث هو أن تصب فرنسا جام غضبها الأكبر على الجانب الأسترالي أكثر من أي جانب آخر.
وهذا ما تشير إليه تصريحات المسؤولين الفرنسيين، بعدم قدرة بلادهم على الوثوق بأستراليا في المحادثات الجارية معها بشأن إبرام اتفاق تجاري مع الاتحاد الأوروبي. ويجب ألا ننسى، أن فرنسا ستكون الرئيسة المقبلة لدورة هذا الاتحاد، مع الإشارة إلى الوزن الذي تحظى به باريس عموما ضمن الكتلة الأوروبية كلها. وستقف هذه الكتلة مع الجانب الفرنسي، وهذه من الثمار التي تحصل عليها كل دولة عضو في هذا الاتحاد. لكن الولايات المتحدة بإدارتها الديمقراطية التي تولي أهمية كبيرة لتحالفاتها، بدأت تتحرك بالفعل لامتصاص الغضب الفرنسي قدر المستطاع. وأعلنت صراحة أنها تتخذ إجراءات في هذا الإطار، خصوصا بعد استدعاء باريس سفيريها في واشنطن وكانبيرا. وخلاصة القول، إن الغرب لا يستطيع حقا الدخول في أي خلافات بصرف النظر عن مستواها، بينما مصالحه معرضة للتهديد المتصاعد من المارد الصيني.