الرقائق الإلكترونية والابتكارات النوعية

عصرنا الحاضر يعد هو عالم التقدم التقني والتكنولوجي، وقد تحدثنا في مقالات سابقة عن أنواع متعددة من الابتكارات النوعية، وكيف أثرت هذه الابتكارات بشكل عام في المنظومة الحياتية والمجتمعية، وكيف كان لها دور فاعل في النمو الاقتصادي والريادي والدفاعي بين دول العالم. وسيكون حديثنا اليوم عن موضوع مهم جدا ويعد المكون الأساس لكثير من هذه التقنيات الحديثة والعصب الأساس لكثير من الابتكارات النوعية، حديثنا اليوم عن الرقائق الإلكترونية أو ما يسمى بأشباه الموصلات الإلكترونية، وسنتحدث عن تعريفها وأنواعها واستخداماتها وكيفية تصنيعها والدور الذي تلعبه الدول العظمى لامتلاك مثل هذه التقنيات والتأثير الاقتصادي والريادي من جراء هذه الابتكارات.
يطلق مسمى الرقائق الإلكترونية على "أشباه الموصلات Semiconductor"، وتسمى أيضا بالرقائق الدقيقة Microchips، ومنها أنواع أيضا تسمى أيضا بالدوائر المتكاملة Integrated Circuit: IC، ولها قدرة في توصيل الطاقة الكهربائية إلا أن قدرتها في ذلك تقع بين الموصلات ذات القدرة العالية في عملية التوصيل وبين تلك العازلة، ولذا نطلق عليها أشباه موصلات، ويتم تصنيعها من مجموعة من المركبات والعناصر الكيميائية، ومن أبرزها ما يتم باستخدام مادة السيليكون Silicon، وهي مادة كيميائية على شكل بلوري صلب يتم إنتاجها من الرمال، خصوصا رمال السيليكا، حيث تتم تنقيتها وصهرها وتبريدها لتكوين سبائك من السيليكون، ومن ثم تقطيعها على شكل رقائق تسمى رقائق السيليكون Silicon wafers، وفي الحقيقة أن عملية تصنيع هذه التكنولوجيا التقنية من الرقائق الإلكترونية تمر بمراحل متعددة وهي في غاية التعقيد، ولها عدة أشكال وأنواع مختلفة باختلاف مكوناتها من العناصر والمركبات الكيميائية، ومنها على سبيل المثال، أشباه الموصلات الداخلية Intrinsic Semiconductor، وأشباه الموصلات الخارجية Extrinsic Semiconductor، وتنقسم إلى نوعين من حيث درجة نقاوتها، فمنها أشباه موصلات نقية وأشباه موصلات غير نقية، وبالتالي يمكن التحكم في نسبة التوصيل الكهربائي فيها بالتحكم في نسبة نقاوتها، وكان أول اختراع لهذا النوع من أشباه الموصلات في 1901 باسم شعيرات القطط Cats Whiskers وهو جهاز معدل للتيار الكهربائي ويستخدم ككاشف للإشارات والموجات الراديوية، للعالم الفيزيائي الهندي الأصل جاجاديش تشاندرا بوس Jagadish Chandra Bose. وأصبحت صناعة هذه الرقائق الإلكترونية العمود الفقري الذي قامت وتقوم عليه معظم التكنولوجيا التقنية والابتكارات الرقمية النوعية في عصرنا الحاضر، وأصبحت جزءا أساسا لتصنيع وتشغيل معظم التقنيات والابتكارات النوعية فنجدها في كثير من الصناعات، مثل صناعة السيارات وتقنيات وتطبيقات الذكاء الاصطناعي والروبوتات وأنظمة التحول الرقمي والتطبيقات الحاسوبية، وعديد من الابتكارات النوعية الدفاعية والأمنية والأجهزة الطبية وأنظمة الاتصالات المتقدمة بجميع أنواعها والحساسات الإلكترونية وغيرها. وتختلف أنواع الشركات الخاصة بتصنيع هذه التقنية النوعية وممكن أن نقسمها إلى ثلاثة أنواع فمنها، النوع الذي يهتم بعملية تصميم هذه الرقائق فقط وتتم العملية الإنتاجية بالتعاقد مع مصانع لا تمتلكها، تقوم بهذا الغرض وتسمى Fabless، والنوع الثاني من هذه الشركات تلك التي تهتم بعملية التصنيع Fabrication، والنوع الثالث تلك التي يطلق عليها الشركات المتكاملة، وهي التي تهتم بالتصميم والتصنيع معا ويطلق عليها Integrated Device Manufacturers: IDM.
وتتنافس دول العالم لامتلاك الأولوية والريادية لمثل هذا النوع من التكنولوجيا التقنية وذلك من خلال مراكز الأبحاث والشركات والمصانع، ومن بينها الولايات المتحدة والصين وكوريا الجنوبية وتايوان وهولندا واليابان وسنغافورة وغيرها في هذا المضمار، وتعد الشركة التايوانية تي إس إم سي Taiwan Semiconductor Manufacturing: TSMC أكبر شركة رقائق إلكترونية على مستوى العالم لامتلاكها أكبر المصانع لتصنيعها، وقدرتها على تصنيع أصغر رقائق إلكترونية بحجم 5 ـ 3 نانومترات الأكثر تطورا في وقتنا الحاضر، وتنافسها في هذا المستوى الشركة الكورية الجنوبية سامسونج إلكترونيكس Samsung Electronics، وهناك شركة إنتل الأمريكية التي تعد أيضا من الشركات الرائدة في مجال تكنولوجيا الرقائق الإلكترونية وغيرها. ويعمل كثير من هذه الدول على تغيير استراتيجياتها وضخ وتخصيص الميزانيات اللازمة لمثل هذه المشاريع المهمة لتسلم دفة القيادة في هذا المجال، خصوصا في ظل وجود الطلب والحاجة الماسة والملحة لهذه التقنيات، وأيضا بعد توقف الإنتاج بسبب جائحة كورونا والصعوبات التي خلفتها عالميا، ما تسبب في تأخير كبير في طلبات التصنيع عالميا وفي جميع مجالات التصنيع، ما يبين أهمية هذه الصناعات عالميا. ولذا من المتوقع أن يتزايد النمو الاقتصادي والاستثماري العالمي في مجال تصنيع هذه الرقائق الإلكترونية حسبما أشار إليه عديد من التقارير البحثية الاقتصادية، بلغ الاستثمار في هذا المجال في العام الماضي 381 مليار دولار، ويتوقع أن يصل إلى 553.6 مليار دولار بحلول عام 2026 أي بمعدل نمو سنوي مركب Compound Annual Growth Rate: CAGR يبلغ 7.8 في المائة للفترة المتوقعة من 2021 إلى 2026، كما تشير التقارير كذلك إلى نمو سوق الملكية الفكرية Intellectual Property: IP للرقائق الإلكترونية، حيث بلغ في 2021، 5.06 مليار دولار، ومن المتوقع أن يصل إلى 7.02 مليار دولار في 2025، أي بمعدل نمو سنوي مركب يبلغ 8.5 في المائة.
ولعل تصريح المهندس عبدالله السواحة وزير الاتصالات وتقنية المعلومات، أخيرا، عن تصنيع أول رقاقة إلكترونية بأيد وعقول سعودية، سيتم استخدامها في عدة تقنيات منها الدفاعية والتجارية والمدنية، دليل على عزم مملكتنا الحبيبة على المنافسة في مجال هذه التقنيات والابتكارات النوعية، الأمر الذي يتطلب تكامل الجهود بين المراكز البحثية في الجامعات والهيئات مع شركات التصنيع. وأشير إلى الحاجة والضرورة إلى تبني مسار التصنيع المحلي، في ظل النقص في توفير مثل هذه التقنيات عالميا، وأن تكون عملية إنتاج هذه الرقائق الإلكترونية عملية تكاملية، أي أن تتضمن عملية الإنتاج التصميم والتصنيع معا، حتى نحقق الصدارة في هذا المجال المهم الذي يعد عصب الابتكارات النوعية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي