خطورة الجدال
تبادل الحديث مع الآخرين والحوار البناء معهم أمر لا غبار عليه وطبيعة بشرية جبلية، لكن حين يتحول الحوار أو النقاش إلى جدال، فهذا هو الأمر غير المحمود الذي ورد التحذير منه في محكم التنزيل، "ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون". والرسول صلى الله عليه وسلم يقول، "أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقا.. الحديث". والمراء هو المماحكة والاعتراض على كلام الغير. وصدق من قال "دع الجدال ولا تحفل به أبدا ـ فإنه سبب للبغض ما وجدا".
فهو فعلا سبب للهجر ولقطع حبال المودة بين الناس لأن كل واحد من المجادلين يريد أن يثبت حجته ويدحض حجة خصمه ويظهر ضعفه، وعادة ما يقود ذلك إلى دفع الحق وعدم قبوله، وإن كان يعلم في قرارة نفسه أنه حق، لأن الجدال بينهما لم يكن هدفه إظهار الحق، بل كان منازعة مغالبة لا طائل من ورائها. الإمام الشافعي يقول، "المراء يقسي القلب ويورث الضغائن"، والإمام الأوزاعي يقول، "إذا أراد الله بقوم شرا ألزمهم الجدل ومنعهم العمل". إنك لترى في بعض المجالس أناسا لا هم لهم إلا تصيد أخطاء أو هفوات الآخرين، ولذا تجد الناس يعمدون للسكوت حين ينطق مثل هؤلاء.
قالوا سكت وقد خوصمت قلت لهم ـ إن الجواب لباب الشر مفتاح
والصمت عن جاهل أو أحمق شرف ـ وفيه أيضا لصون العرض إصلاح
المجادلة على وجه العموم أسلوب حواري فهي لا تذم مطلقا ولا تحمد مطلقا وإنما بحسب قصد صاحبها منها، فإن كانت بالحسنى وبقصد شريف فهي محمودة. "ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن.. الآية". وإن كانت بباطل أو على باطل أو بهدف سيئ فهي مذمومة. "ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا.. الآية". بعض من يجادل هدفه الرئيس إثبات قدراته وتعويض نقص نفسي يعانيه وكأنه لا يشق له غبار في الثقافة والعلم، وما علم أن "لا أدري" هي دليل قوة وثقة في النفس وليست دليل ضعف وعجز. "ومن كان يهوى أن يرى متصدرا ـ ويكره لا أدري أصيبت مقاتله".
لا يترك الجدال العقيم إلا من كان قويا واثقا من نفسه لأنه ليس بين الانتصار للنفس والانتصار للحق إلا خيط رفيع لا يدركه إلا العقلاء.