العالم السيبراني وآفاقه المستقبلية بعد كورونا
بدأت دلائل رحيل فيروس كورونا الخبيث بالظهور، والأمل أن يكون هذا الرحيل سريعا ونهائيا، لا لقاء بعده. فقد أقام بيننا، وعلى مستوى العالم بأسره إقامة غير مرحب بها، شهدت تجارب مريرة ومآسي قاسية تماثل آثار الحروب. وبالطبع لم يقف الإنسان مكتوف الأيدي أمام تحدي كورونا، بل وقف وقفة مشتركة عالمية، مستهدفا الدفاع عن نفسه ومصالحه، واستمرارية أعماله، واستدامة معطيات الحياة. ولم يقتصر هذا الدفاع على العمل على إيجاد الوسائل البيولوجية اللازمة لحماية الإنسان وتمكينه من تفعيل نشاطاته، بل شمل أيضا اللجوء إلى العالم السيبراني، وتفعيل التحول الرقمي، وأداء مختلف الأعمال ذات الصبغة المعلوماتية، وما أكثرها عن بعد.
شهد العمل عن بعد اهتماما جزئيا قبل كورونا، لكنه كان متعثرا جزئيا أيضا، لأن طبيعة هذا العمل تتضمن تأثيرا كبيرا في عادات الإنسان في أداء الأعمال والنشاطات المختلفة. وللعادات قوة كبيرة في حياة كل فرد، لا يحد منها، ولا يغيرها إلا مستوى متقدم من القناعة، يتجاوز قوة العادة. ويستغرق هذا الأمر كي ينتشر على نطاق واسع، زمنا قد يطول أو يقصر، تبعا للفرد والظروف المحيطة به. وعندما يتم هذا الانتشار تبدأ العادات الجديدة بالرسوخ بانتظار أن تأتي وسائل أخرى تحث على عادات أكثر حداثة، لتدور العجلة من جديد. وقد نكون حاليا في مرحلة ترقب لمستجدات ما بعد التحول الرقمي المشهود حاليا سيقدمها الذكاء الاصطناعي تستوجب التوجه نحو العادات الأحدث في المستقبل.
كان فيروس كورونا الخبيث سببا قاهرا لتفعيل العمل عن بعد، وليس سببا مقنعا لدى كثيرين. يضاف إلى ذلك أن هذه الضرورة القاهرة لهذا العمل شملت مجالات تحتاج إليه جزئيا، وليس كليا، لأنه غير كاف، أو كاف جزئيا فقط. ومن أمثلة هذه المجالات في قطاع التعليم: تعليم الصغار، والتعليم التطبيقي في المختبرات والتدريب العملي. وهناك أمثلة أخرى في قطاعات أخرى، كالقطاع الصناعي، والزراعي والصحي، والسياحي وغير ذلك. ولعله يمكن القول إن جوهر العمل عن بعد، يكمن أساسا في النشاطات المعلوماتية، وهذه قابلة للتداول والأداء عن بعد وهي موجودة في مختلف قطاعات العمل المهني، دون استثناء.
ولا شك أن المنطق الاقتصادي للحياة، وكذلك منطق راحة الإنسان، يقضيان بتفعيل العمل عن بعد في جميع النشاطات التي يمكن من خلاله، أداؤها بالمستوى المأمول. فتحول هذه النشاطات إلى العمل عن بعد يجعلها أجدى كفاءة، وأكثر رشاقة في الاستجابة للمتغيرات. وقد ناقشنا فوائد التحول الرقمي والعمل عن بعد على هذه الصفحة، في أكثر من مقال سابق.
مع مؤشرات رحيل فيروس كورونا الخبيث، لا بد من القلق على حالة العمل عن بعد، خوفا من تراجعها، وفقدان مزاياها. وغاية ما سيأتي من هذا المقال هي محاولة وضع بعض النقاط على الحروف بشأن الفرق بين عقلية الاقتراب من التحول الرقمي والعمل عن بعد، وبالذات ذلك الذي يمكن تنفيذه بجدارة عبر العالم السيبراني من جهة وبين عقلية الابتعاد عن ذلك، وتبني العمل الحضوري من جهة أخرى.
تهتم عقلية الاقتراب من التحول الرقمي والعمل عن بعد عبر العالم السيبراني بالمنجزات التي يقدمها هذا العمل، بصرف النظر عن مكان التنفيذ. وتوضع لهذه المنجزات عادة معايير ومقاييس تقييم تفيد في تحديد مكامن قوة الإنجاز، ومواطن ضعفه، ومتطلبات تطويره، كما أنها تفيد أيضا في تشجيع العاملين على الإنجاز والتميز، بل على التنافس في ذلك أيضا. أما عقلية الابتعاد عن التحول الرقمي والعمل عن بعد، فتهتم بالتأكد من حضور العاملين في أوقات العمل الرسمي، عبر بصمات الدخول والخروج، حتى إن لم يكن هذا الحضور مهما للإنجاز.
إن الحرص على الحضور مطلوب للأعمال التي تتطلب لقاءات حضورية للعمل في الحقول الزراعية، أو المراكز الصناعية، وربما أماكن الخدمات الإنسانية المباشرة، لكنه غير مطلوب في الأعمال المعلوماتية التي لا تتطلب ذلك. ولعل من المناسب هنا ملاحظة أن ضبط الحضور، حيث لا ضرورة لذلك، قد يؤدي إلى شعور بالإحباط لدى بعض العاملين، بسبب شعورهم بعدم الثقة، حيث يحد ذلك من تفعيل إمكاناتهم، ويقلل القدرة على الاستفادة منها. فالثقة معيار أساسي من معايير تفعيل القدرة على العمل والإنجاز.
ويضاف إلى ما سبق أن حجز العاملين في أوقات محددة دون وجود عمل يطلب إنجازه، قد يطلق طاقات الإبداع في الاحتيال على أنظمة مراقبة الحضور والانصراف، بدلا من الإبداع في مجالات الإنجاز. ولا شك أن الجوهر هنا هو اكتساب ضوابط ذاتية للعمل والإنجاز، ووجود تحفيز لذلك. وهناك أمثلة عديدة، في مجال العمل عن بعد، تشير إلى أن أصحاب هذا العمل مستعدون للاستجابة لمتطلبات العمل في أي وقت من اليوم، بل حتى في إجازاتهم الشخصية، لأنهم واعون بأن الإنجاز هو معيار تقييم أدائهم، وليس ضوابط الحضور والانصراف.
وهناك ملاحظتان يجب ذكرهما في إطار ما سبق. تتعلق الأولى بالمؤسسات الصغيرة، أو المؤسسات الناشئة، التي تتوافق طبيعة عملها مع العمل الرقمي السيبراني. مثل هذه المؤسسات ينطبق عليها وصف مؤسسات افتراضية Virtual، ولا تحتاج بالضرورة إلى مقر محدد، ويجب قبولها على هذا الأساس، كي لا تكون تكاليف المقر عبئا على استمراريتها، خصوصا في مراحل انطلاقها الأولى. أما الملاحظة الثانية، فتختص بإدراك متطلبات الجيل الجديد الذي يقرع أبواب سوق العمل. فقد وعى هذا الجيل على ثقافة العالم السيبراني والتحول الرقمي والعمل عن بعد ومن الصعب إقناعه بأداء عمله المعلوماتي المهني حضوريا، ما لم تكن هناك حاجة فعلية إلى ذلك ترتبط بهذا الأداء.
وفي الختام، لعل هذا المقال قد تمكن من إيضاح أن بيئة العمل المعلوماتي، والتوجه نحو الإنجاز، في العصر الذي نعيش فيه، سواء بوجود فيروس كورونا الخبيث، أو بعد أن يرحل، تستوجب الاقتراب من التحول الرقمي والعمل عن بعد، والاستفادة الشاملة من معطيات العالم السيبراني، وآفاقه المستقبلية.