تمكين الموهوبين .. تميز في مسيرة التنمية
عندما نتحدث عن المستقبل تبرز قضية التنمية، والقدرة والعطاء، والتميز فيه، بين متطلبات المستقبل المأمول. ويكمن جوهر الاستجابة لهذه المتطلبات في الإنسان بما وهبه الله من إمكانات لم تحظ المخلوقات الأخرى بما يماثلها. وعلى هذا الأساس فإن الاستثمار في تمكين الإنسان ضرورة لا بد منها لتحقيق التنمية وتعزيز استدامتها، والوصول إلى المستقبل المتجدد المنشود. ولتمكين الإنسان جانبان: جانب تمكين النشأة وبناء الإنسان القادر على الإبداع والابتكار والتميز، ثم جانب تمكين فرص العمل، والإدارة الملائمة التي تتيح له فرص إبراز إمكاناته على أرض الواقع، وإظهار أثرها في مدى العالم بأسره الذي جعله الفضاء السيبراني قرية صغيرة لا تمثل المسافات فيها عائقا للتواصل الآني بين أرجائه المختلفة.
ينطلق جانب تمكين النشأة من التعليم، خصوصا في مراحل التعليم العام، فهي الأعمق تأثيرا في بناء الإنسان، واكتشاف إمكاناته، والسعي إلى تفعيلها. ونحن كبشر متفقون في صفاتنا وإمكاناتنا العامة، لكننا مختلفون في مدى تركيز هذه الصفات والإمكانات في كل منا، وكذلك في توجهاتنا وطموحاتنا. وعلى هذا الأساس نجد بيننا من هو موهوب في العلوم أو الرياضيات، أو الفكر والخيال، أو القدرة على التعبير، أو حتى في الإمكانات الحركية، والفنون المختلفة، وغير ذلك. وبالطبع على التعليم السعي إلى اكتشاف ورعاية هؤلاء بالتعاون مع المؤسسات المختصة المعنية باكتشاف وتمكين المواهب المختلفة.
وإذا انتقلنا من جانب تمكين النشأة إلى جانب تمكين العمل والإدارة الملائمة من أجل تفعيل العطاء المطلوب لتحقيق التنمية نجد أن على مؤسسات الأعمال، كي تحتفظ بأعمالها وقدرتها على الاستمرار، أن تهتم بالموهوبين في مجال عملها، خصوصا أولئك الذين حظوا بتمكين النشأة، وتتيح لهم الإبداع والابتكار والإسهام في مسيرة نجاحها. وبدأت المنظمة الدولية للمعايير ISO عام 2019 بتقديم توصيات للمؤسسات بشأن إدارة شؤون الابتكار في أعمالها، وتعرف هذه التوصيات بسلسلة ISO 56000.
ولأن التنمية الاقتصادية في العصر الذي نعيش فيه تستند بشكل أساسي إلى موضوعات العلوم، والتقنية، والهندسة، والرياضيات التي يعبر عنها عالميا بالاختصار STEM، يحظى الموهوبون في هذه المجالات باهتمام خاص في تمكين النشأة. ولا يقتصر هذا الاهتمام على مستوى الدول في إطارها الداخلي، بل على مستواها في إطارها الخارجي الدولي، والتنافس بين الدول المختلفة الطامحة إلى التميز في تمكين أبنائها، وإظهار هذا التمكين عبر مسابقات يبرز فيها المتفوقون.
حول هذا الموضوع سنتطرق إلى حدث مهم شهده العالم أخيرا في مدينة أتلانتا في ولاية جورجيا الأمريكية. وتنطلق أهمية هذا الحدث من إبرازه حقيقة مفرحة ترتبط بمنجزات شباب سعوديين من طلاب المدارس الذكور والإناث الذين حظوا برعاية مؤسسة الملك عبدالعزيز ورجاله للموهبة والإبداع «موهبة»، وجهات أخرى، في مقدمتها وزارة التعليم. فقد تفوق هؤلاء الشباب على كثير من أقرانهم المنتمين إلى مختلف دول العالم، وذلك فيما قدموه من منجزات علمية في مجالات مختلفة. وكان ذلك في إطار مسابقات المعرض الدولي للعلوم والهندسة ISEF، الذي يقام سنويا في شهر أيار (مايو)، تحت رعاية جمعية العلوم Society for Science.
ولعلنا فيما تبقى من هذا المقال نهتم بالتعريف بالمعرض والحدث المفرح، تمهيدا للمقال المقبل الذي يطرح دور مؤسسة موهبة، في تمكين الناشئة وإثبات حقيقة أن الشباب السعوديين، ذكورا وإناثا، يتمتعون بإمكانات متميزة، قادرة على المنافسة عالميا، وتستطيع الإسهام في تحقيق ليس فقط رؤية المملكة 2030، بل رؤاها المستقبلية بعد ذلك بمشيئة الله.
أسست جمعية العلوم التي ترعى معرض ISEF عام 1921، أي: قبل أكثر من قرن من الزمن، وكان هدفها هو إعلام الناس بالتطورات والاكتشافات العلمية الجارية مع الزمن. في عام 1950 أطلقت الجمعية معرض ISEF الذي بدأ كمعرض وطني أمريكي، ثم تحول عام 1958 إلى معرض عالمي، يشارك فيه الشباب من مختلف أنحاء العالم. وحصل المعرض على دعم شركة إنتل Intel، المختصة بشرائح الدوائر الإلكترونية، ابتداء من عام 1997 حتى عام 2019، لينتقل الدعم عندئذ إلى شركة ريجينيريون Regeneron، المختصة بالمنتجات الدوائية، حيث لا يزال مستمرا حتى الآن، مع شركاء آخرين. وبقيت إدارة جمعية العلوم لشؤون المعرض دون تغيير منذ إنشائه.
تشمل مجالات مسابقات المعرض، التي منحت من أجلها الجوائز 21 مجالا، وترتبط هذه المجالات بالعلوم، والتقنية، والهندسة، والرياضيات STEM. ولكل مجال من المجالات المطروحة عدد من الجوائز التي تمنح لطلاب وطالبات التعليم العام الدارسين في المستويات ما بين العامين التاسع والـ 12، وذلك عن المشاريع والمنجزات العلمية التي يتقدمون بها. وبلغ عدد المشاركين في مسابقات المعرض هذا العام 1750 متسابقا، شاركوا حضوريا أو افتراضيا عبر الإنترنت. وينتمي أكثر من نصف هؤلاء إلى الولايات المتحدة، وينتمي الباقون إلى أكثر من 60 دولة، بينها المملكة، حيث بلغ عدد المشاركين السعوديين ذكورا وإناثا 35 مشاركا ومشاركة.
فاز الشباب السعوديون ذكورا وإناثا، بـ 21 جائزة، بينها 16 جائزة كبرى، وشملت الجوائز حصول أحد الشباب السعوديين وهو الشاب عبدالله الغامدي، الذي يستعد لدخول امتحانات الثانوية العامة، على جائزة العالم الشاب المتميزة. واللافت أن عدد المجالات العلمية للجوائز التي فاز بها الشباب السعوديون، ذكورا وإناثا، بلغ تسعة مجالات، من مجمل المجالات الـ 21 التي تتبناها مسابقات المعرض. وشملت المجالات التسعة: علوم الطاقة، والكيمياء، والهندسة البيئية، وعلوم النبات، والعلوم الاجتماعية والسلوكية، وعلوم المواد، وعلوم الأرض، والتقنيات الهندسية، والعلوم الطبية الانتقالية. ويتصف جميع هذه المجالات بأنها مجالات حيوية للإبداع والابتكار والإسهام في التنمية وتفعيل استدامتها.
وإذا كانت هناك كلمة أخيرة لوضع خاتمة لهذا المقال، فهي أن فوز الشباب السعوديين، ذكورا وإناثا، بجوائز عالمية يعطي أملا، بل ثقة بمستقبل مشرق للوطن تتألق فيه نجوم العطاء والتميز، وتنشط فيه مسيرة التنمية نحو تحقيق رؤية المملكة 2030، وما بعدها أيضا.