نظام نقدي يصلح للعصر الرقمي «2 من 3»

إن أداء المدفوعات عبر الحدود مكلف وبطيء ويفتقر إلى الشفافية وغير متاح لكثير ممن هم الأشد احتياجا إليه. لماذا؟ لأن كثيرا من "الطرق" آخرها مسدود، و"السكك الحديدية" تعمل على مسارات متباينة الاتساع، و"الأنفاق" غير مضاءة بالقدر الكافي. وحيثما يتعذر التشغيل المتوافق بين هذه الشبكات، يدخل الوسطاء ويبنون الروابط المطلوبة ويستقطعون مبلغا لهم. ومن الأمثلة الجيدة في هذا الصدد تحويلات العاملين في الخارج. فالتحويل الواحد تبلغ تكلفته المتوسطة 6.3 في المائة، أي أن نحو 45 مليار دولار سنويا تذهب إلى الوسطاء بعيدا عن المستفيدين النهائيين، بمن فيهم ملايين الأسر محدودة الدخل.
غير أن هناك تحديا أكبر من ذلك، وهو أن نظام المدفوعات الدولية يواجه مخاطر متنامية من جراء التشتت الذي أشرت إليه آنفا. بعضها مخاطر هيكلية: فمقدمو خدمات النقود الرقمية من القطاع الخاص يعدون بعمليات منخفضة التكلفة لأداء المدفوعات عبر الحدود، لكن في الأغلب ما يكون ذلك في حدود شبكة مستخدميهم المغلقة. وهناك مخاطر جغرافية ـ سياسية، حيث إن بعض البلدان قد تفكر في إقامة نظم دفع منفصلة وموازية لتخفيف مخاطر العقوبات الاقتصادية المحتملة. ولن تسفر "تكتلات المدفوعات" هذه إلا عن تفاقم أثر "التكتلات الاقتصادية" الأوسع نطاقا، ما يوجد مواطن عدم كفاءة جديدة ويفرض تكاليف جديدة. ومن شأن هذا أن يلحق الضرر بالإنتاجية ومستويات المعيشة في كل البلدان. إن بإمكاننا تحقيق أداء أفضل. بل يجب أن يكون أداؤنا أفضل وأسرع. ومن ثم، فإن رسالتي الأساسية هي أن البلدان ينبغي أن تعمل معا لبناء "طرق وسكك حديدية وجسور وإنفاق" جديدة، باستخدام منصات رقمية عامة لربط نظم المدفوعات. ومن شأن هذا أن يجعل المدفوعات الدولية أكثر كفاءة وأمانا وشمولا للجميع. ومن المهم أيضا أن من شأنه الحد من مخاطر التشتت.
إنها مهمة شاقة، لكن إنجازها غير مستحيل. فتسلق هذا الجبل يستحق كل العناء. ولذلك، يمكن أن يكون أصدقاؤنا السويسريون مرشدين لنا في هذا المجال أيضا ـ بتاريخهم الطويل في التعاون، وكذلك خبرتهم الكبيرة في تسلق الجبال، بالمعنى الحرفي أيضا.
فعلينا بالفعل أن نفكر كمتسلقي الجبال بثلاث طرائق: استخدام أحدث المعدات، والتكيف مع التضاريس، والاعتماد على فريقنا.
3 - تحديث نظام المدفوعات الدولية
(أ) استخدام أحدث المعدات
أولا، يتعين علينا استخدام أحدث المعدات، ولا سيما التكنولوجيات المتطورة. وكما سمعنا اليوم خلال مناقشاتنا، فإن إرسال الأموال عبر الحدود يمكن أن يتم بصورة شبه فورية ومجانية. ويمثل ذلك نتاجا مهما لعدة مشاريع تجريبية نفذها مجمع الابتكار في بنك التسويات الدولية بالشراكة مع عدد كبير من البنوك المركزية التي يشارك ممثلوها في هذا المؤتمر، بما فيها بنك سويسرا المركزي.
وتعد البنية التحتية العامة مكونا أساسيا في هذه المشاريع التجريبية، وتتضمن المنصات الرقمية التي تسهم في تسهيل الاتصالات، والامتثال التنظيمي، والمنافسة بين مقدمي خدمات المدفوعات، وصولا إلى تسوية المعاملات عبر الحدود ـ في نهاية المطاف.
وهنا أعطيكم مثالا: قد يقوم البنك الذي يضم حسابي في واشنطن بمبادلة عشرة دولارات من هذا الحساب بأصل مشفر رقمي يجري تحويله لاحقا من خلال منصة إلى أحد مقدمي خدمة المدفوعات في سويسرا، والذي يقيدها بدوره كرصيد دائن في محفظة صديقي في زيوريخ. ويعادل هذا إرسال ورقة بقيمة عشرة دولارات عبر البريد، لكن بأقصى درجات السرعة والأمان، وأدنى حد من التكلفة. ومن الواضح أن هذه المنصات العامة الجديدة ستستمر في التطور.
وسمعنا من البلدان الصاعدة والنامية أن هناك اهتماما كبيرا بتوسيع نطاق الخدمات بحيث لا تقتصر على المدفوعات فحسب. فهل يمكن أن تتيح هذه المنصات مبادلة عملة بأخرى؟ وهل يمكن أن نجد أطرافا مقابلة لديها رغبة أكبر في مبادلة أزواج العملات الأقل سيولة؟
خلاصة القول، إن منصات المدفوعات يمكنها أن تكون أكثر فائدة لمجموعة كبيرة من المستخدمين. وسيعتمد هذا التطور المحتمل على القدرة على برمجة المنصة. فعلى سبيل المثال، يمكن لشركة صغيرة التحوط ضد مخاطر النقد الأجنبي المرتبطة بعملية دفع مستقبلية. أو قد تتقدم شركة مالية بعروضها إلكترونيا في مزاد للعملة الأجنبية يتم تنظيمه عبر المنصة. ويفتح ذلك المجال أمام ابتكارات القطاع الخاص، والمنافسة، وتطوير الأداء الوظيفي للمنصة.
وهكذا يتسع مفهوم السلعة العامة من مجرد ضمان إتمام التسوية إلى تقديم واجهة برمجية موحدة تكون بمنزلة لغة مشتركة تتيح أتمتة الخدمات والحصول عليها من خلال المنصة. وقد يبدو ذلك كقمة جبل بعيدة لكنها تستحق عناء الاستكشاف.
وينطبق الأمر نفسه على فكرة إنشاء منصة تربط بين مختلف أشكال النقود التي ستستخدمها البلدان وتدعمها بشكل قانوني. ويتضمن ذلك الودائع في البنوك التجارية، وربما العملات الرقمية الصادرة عن البنوك المركزية أيضا، حتى بعض ترتيبات العملات الرقمية المستقرة stablecoin ـ إذا كانت جيدة التصميم والتنظيم... يتبع.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي