ثورة الصرافين .. من الفوضى النقدية إلى توظيف التقنية

ثورة الصرافين .. من الفوضى النقدية إلى توظيف التقنية
ثورة الصرافين .. من الفوضى النقدية إلى توظيف التقنية
ثورة الصرافين .. من الفوضى النقدية إلى توظيف التقنية
ثورة الصرافين .. من الفوضى النقدية إلى توظيف التقنية
ثورة الصرافين .. من الفوضى النقدية إلى توظيف التقنية

بدءا من أعمال الصرافة البسيطة والفوضى النقدية التي تعتمد على الأفراد، ومرورا بأسعار الصرف شبه الموحدة للصرف، وصولا إلى توظيف التقنية المتقدمة في القطاع المصرفي في المملكة حاليا، هنالك ثورة كبيرة شهدها القطاع بدأت منذ بدايات تأسيس القطاع.
ويشكل قطاع الصرافة فرص عمل واستثمار للسعوديين، كما أنه ركيزة أساسية من ركائز الاقتصاد الوطني. لذلك تسلط "الاقتصادية" الضوء على تاريخ القطاع ونشأته في شبه الجزيرة العربية واللبنات الأولى لمهنة الصرافة في المملكة، بداء من العمل في الصرافة بصندوق بسيط يطلق عليه "البشتختة"، مكون من عدة أدراج مقسمة لوضع وفرز العملات، يمتلكها الصرافون، تعد حجر الزاوية لبداية العمل المصرفي.
وبنظرته الثاقبة، ولحسم فوضى التعاملات النقدية التي عاشها القطاع المصرفي، أصدر الملك عبدالعزيز أمره السامي المتضمن أول تنظيم للوضع النقدي في البلاد، الذي جرى نشره في الجريدة الرسمية "أم القرى" في عددها 60 بتاريخ 16 / 7 / 1346، حيث تضمن عديدا من المواد التي رسمت السياسة النقدية للدولة، وفي العام نفسه تم سك أول ريال عربي سعودي خالص، جرى سكه من معدن الفضة على غرار الريال المجيدي، وبمواصفاته نفسها.
اعتمد العمل في الصرافة في تلك المرحلة على الثقة والأمانة، ولا سيما أن الأمن السائد في المنطقة لم يكن بالأمر اليسير، كان العاملون أفرادا وليسوا مجموعات، لذلك يحتاج الفرد إلى مهارة ومواصفات ذهنية معينة ومعرفة بأنواع العملات ووزنها وقيمتها إلى جانب الخبرات المتوارثة أو المكتسبة، وكانت أسعار الصرف شبه موحدة في كل منطقة، واعتمد الصرافون على البرقيات والإرساليات التي تعد أكثر دقة في توصيل المعلومات المهمة وأسعار الصرف، بجانب الراديو، الذي كان ركيزة رئيسة في محال الصرافة، لمتابعة الأخبار السياسية التي كانت تنعكس على أسعار الصرف.


البدايات
في منتصف أربعينيات القرن الـ20 ظهر الدولار كعملة تداول أساسية في الاقتصاد العالمي بعد سيادة أمريكا على النظام الاقتصادي العالمي، والتوترات السياسية في العالم، هذه الأحداث أثرت في الاقتصاد العالمي وظهرت فلسفات ومدارس اقتصادية وشرعت سياسات مالية ألقت بظلالها على الاقتصاد، ولم تكن المملكة ببعيدة عن هذه التحولات، فكان لا بد من عمل إصلاحات مالية لضبط الأوضاع النقدية، وكان الملك عبدالعزيز لديه الإدراك التام أن النقود تعد من أهم مظاهر سيادة الدولة، فعمل جاهدا وقام بكثير من الإجراءات الإصلاحية لمنظومة النقد، ولعل أول خطوة عملية قام بها الملك عبدالعزيز تمثلت في دمغ بعض النقود الشائعة والرائجة في التداول بكلمة "نجد" في 1340 الموافق 1922م، لتكون النقود الرسمية المعترف بها، وبعد توحيد الحجاز مع نجد عام 1343 الموافق 1925م أقر التعامل بالريال الفرنسي والنقود العثمانية وغيرها من النقود الأجنبية، التي كان الشريف حسين بن علي قد منع تداولها خلال فترة حكمه، وكإجراء وقائي قام الملك عبدالعزيز بدمغ تلك النقود بكلمة "الحجاز".
وعن ذلك، يقول صالح حمزة الصيرفي الذي ورث المهنة من والده الذي يعد من أوائل العاملين في مجال الصرافة في المملكة "كان للأزمة المالية خلال الفترة 1929 - 1933 آثار اقتصادية مدمرة، أدت إلى انهيار أسعار الفضة، وتخلص الصيارفة من عملاتهم الفضية، واستبدلوها بالذهب حتى لا يفقدوا مدخراتهم، كما أحدثت تغييرا سلبيا في قيمة التعامل بين الريال الفضي السعودي والجنيه الإنجليزي، الذي كان معمولا به في نظام النقد النجدي الحجازي، وتكبد بعض الصيارفة خسارة لا يستهان بها وقتها".
وبدأ تدفق النقود الأجنبية، إلا أن حاجة السوق المحلية كانت تتطلب كميات أكبر من النقود، ما دفع الملك عبدالعزيز إلى سك نقود تفي بحاجة السوق، فجرى سك كميات كبيرة من النقود النحاسية من فئة نصف القرش وفئة ربع القرش.
وفي خضم تلك الأحداث التي كانت تعيشها البلاد، كان الملك عبدالعزيز يسعى جاهدا لإيجاد الحلول التي تساعد على ضبط الأوضاع النقدية، فقد أصدر نظام العملات الذي استند إلى أربع مواد، المادة الأولى تسمى نظام النقد الحجازي النجدي المعبر عنه فيما يلي بالنقد العربي، والمادة الثانية بدءا من غرة شعبان 1346 يبطل التعامل بالريالات العثمانية وتحل محلها الريالات العربية، والمادة الثالثة الريال العربي مساو في حجمه ووزنه عيار فضته للريال العثماني، ونصف الريال العربي مساو لنصف الريال العثماني، فيما نصت المادة الرابعة على أن الجنيه الإنجليزي هو المقياس الأساس لأسعار العملة الفضية العربية ويساوي الجنيه الذهبي عشرة ريالات فضة عربية.
وقال صالح الصيرفي "في تلك الفترة ركزت الدولة على سك الريال الفضي للوفاء بالتزاماتها، فحدث شح في الفئات الصغيرة، فاستغل بعض المضاربين من الصيارفة الوضع فقاموا بتخزينها، ما أدى الى تدني قيمة الريال الفضي الذي انخفض سعر صرفه من 22 قرشا الى 20 قرشا، وهذا الوضع عاناه البسطاء الذين يعيشون على رزق اليوم بيومه، أما كثير من الصيارفة فكانوا مساندين لسياسة الدولة في هذا المجال، لأنهم يرون انها ستحقق الفائدة آجلا ولا بد من دعمها، وكانت الدولة بإمكاناتها وقوتها قادرة على إعادة التوازن إلى السوق، بجانب حرصها على المحافظة على قيمة الريال السعودي الفضي للتداول مقابل الجنيه الإنجليزي العملة الرئيسة، نظرا لما شهدته تلك الفترة من تحولات سياسية عصفت بالاستقرار الاقتصادي".
تحولات جذرية
كانت تجارة العملات تعد من أهم المهن التجارية في مكة المكرمة والمدينة المنورة بسبب توافد المسلمين لأداء فريضة الحج وحاجتهم إلى تبديل عملات بلادهم بالعملات المحلية، حيث شهدت صناعة الصرافة في الحجاز عدة تحولات جذرية كبيرة منذ بداية تأسيس الدولة السعودية الثالثة، وقال الصيرفي "إن هناك تحولات تاريخية وتنظيمات، والتحولات كانت نقلة في مسار الصرافة، وأهم تلك التحولات دخول العملة الورقية".
وأوضح خرصان بن يعلا ـ مصرفي ـ، أن الصرافة لم تكن بهذا التطور الذي نعيشه الآن، حيث سعت المملكة الى تطوير الصرافة عبر العقود الماضية، بما يتناسب مع متطلبات السوق بل إن التقنية وظفتها بشكل ملموس في التعاملات، وحاليا تتم مشاركة الصرافين في المملكة في أغلب اجتماعات البنوك وشركات المدفوعات ولجان مكافحة الجرائم المالية.
وسارت الصرافة على مراحل متفاوتة بين سعر الصرف للريال مقابل الدولار وغيرها من التنظيمات، إذ تمكنت محال الصرافة من التكيف معها والعمل بموجبها، ويعد قرار مؤسسة النقد السعودي زيادة رأسمال مؤسسات الصرافة إلى ما يقارب مليوني ريال، واحدا من أهم التحولات الكبرى التي حدت من عشوائية محال الصرافة، وعززت من ضمان وحفظ حقوق الناس والمتعاملين مع محال الصرافة.
أنواع العملات
لم يكن أمام الصرافين في شبه الجزيرة العربية سعر صرف موحد لهذه العملات كما هو قائم الآن، كان جميع الصرافين لديهم سعر صرف شبه موحد في كل منطقة من مناطق شبه الجزيرة، وكان من أهم العملات المتداولة في تلك الفترة "التالر النمساوي" وعرف أيضا بدولار ماريا تريزا المعروف محليا باسم الريال الفرنسي، كان بوزن أوقية واحدة ووثقوا به كنقد رئيس في تعاملاتهم التجارية.
وتم تداول أنواع مختلفة من النقود العثمانية الذهبية والفضية والنحاسية وشكلت النقود المسكوكة من "الكوبر نيكل" انتشارا واسعا وسيادة في التداول بين الناس، وإلى جانب تلك النقود جرى تداول الجنيه الإنجليزي الذي لا يقل شهرة عن "الريال الفرنسي" ولقى رواجا كبيرا بين سكان البلاد، وقد عرف بين السكان بأسماء محلية منها "جنيه جورج" و"جنيه أبو خيال" ولكل نوع مزاياه.
وجرى تداول النقود الهندية الفضية المعروفة بالروبية وأجزائها، وهي في حقيقة أمرها نقود إنجليزية سكت أثناء الاستعمار البريطاني للهند، وكان لها انتشار واسع في شبه الجزيرة العربية، ولا سيما في الأقاليم المطلة على البحر الأحمر والخليج العربي، كما تم تداول القروش المصرية.
واكتسب رجال الصرافة في نجد والحجاز ثقة العملاء من ضيوف الرحمن القادمين إلى الجزيرة العربية من الحجاج، بحسن التعامل والصدق والأمانة، فكان التوثيق خلال الحقبات القديمة قائما على الوسائل القديمة من خلال الأختام والمستندات والدفاتر. فرغم أن الأمور المحاسبية كان من السهل التلاعب بها، إلا أن الأمانة والثقة كانتا متبادلتين بين الصرافين والمحاسبين، فكان عملهم في غاية الضبط والدقة والأمانة. ومن خلال هذه المعايير استطاع رجال الصرافة النجاح في أعمالهم التجارية، واستفاد الصرافون من تغيير عملات كثيرة من الزوار واستطاعوا تجاوز الصعوبات التي كان يمر بها الاقتصاد العالمي إبان الحرب العالمية الثانية.
الراديو يحدد سعر الصرف
كان العمل في الصرافة بمنزلة معهد تعليم، حيث إن الخبرات متوارثة ومكتسبة من خلال العمل، إضافة إلى تعلم اللغات جراء الاختلاط في موسم الحج بالحجاج، وكان تنقل العملات بين المناطق عبر أشخاص أصحاب ثقة، التي كانت معيارا للعهد ولحفظ المبالغ المرسلة، وقال صيرفي "سرقت منا صرة أموال كبيرة حصيلة عمل موسم الحج عند إرسالها من مكة إلى جدة، ولم يضبط السارق، ولم نرضخ لهذه المصيبة بل قررنا مواصلة العمل والإصرار بكل عزم وفتح فرع في جدة ".
وكانت جميع قنوات الاتصالات ضعيفة أو معدومة، لذلك كانت البرقيات أو الخطابات هي الأكثر دقة في توصيل الرسائل المهمة سواء في معرفة أسعار الصرف أو معرفة رصيد الأموال وقيمة العملات الأجنبية الموجودة وطرق التحاسب.
وقال صالح صيرفي "كانت الوسيلة المتاحة للتواصل حينها لنا كصرافين ولغيرنا من التجار البرقيات في تسيير وتسريع التعاملات التجارية والمالية، وكانت هذه البرقيات بمنزلة دلالة واستدلال على ارتفاع وانخفاض أسعار العملات، وكانت البرقيات أسرع في التواصل بين الصراف ووكلائه المنتشرين بين مدن المملكة، إضافة إلى جهاز الراديو والصحف، حيث كان الصرافون يركزون على نشرة الأخبار خاصة الأخبار السياسية، لأنها تنعكس على حالة الاقتصاد".
وعاد بن يعلا ليؤكد من جديد، كانت من أبرز التحديات التي تواجه الصرافين نقل الأموال بين المناطق وتغذية الفروع بالنقد، والآن تطورت بشكل كبير وأصبحت تسير وفق أنظمة أمنية عالية، ولم تكن للصرافة إجراءات قانونية تنظيمية للعمل بها، كانت تعمل وفق إجراءات عمل البنوك المحلية وتكيفها مع أعمالها، إضافة إلى أن الأعمال كانت ورقية ولم تكن هناك أنظمة لحفظ العمليات والسندات، والآن تطورت الأعمال من حيث إنشاء العضويات لدى مراكز الصرافة، وأصبحت لديها شروط لقبول العملاء وحدود مالية للتعامل مع أنواع العملاء، إضافة إلى ذلك الرقابة من قبل الجهات التنظيمية والأنظمة التقنية المستخدمة لأعمال الصرافة.
وازداد عدد محال الصرافة في مكة والمدينة، حيث توسع النشاط بصورة كبيرة وأصبح الصرافون يتعاملون مع التجار ومزاولي المهنة نفسها في الدول المجاورة وكانوا يتلقون الطلبات اليومية عبر برقيات من التجار لشراء وبيع مختلف العملات، لم تكن المعلومة متوافرة بسهولة للصرافين لكي يبنوا عليها القرار السليم، لكن كان معظمهم يبني على خبرات أكثر من معلومات.
وتوالت التطورات في أعمال الصرافة في المملكة، وكان صدور القواعد التنظيمية لأعمال الصرافة التي أصدرت عام 1432 أحدث تطور في المجال، حيث ألغى مجلس الوزراء قرار عدم إصدار تراخيص جديدة لمهنة الصرافة للقرار الصادر عام 1394 رقم 1012 والموافقة على القواعد التنظيمية لأعمال الصرافة وإلغاء كل ما يتعارض معها، وفي عام 1441 أصدرت مؤسسة النقد العربي السعودي "البنك المركزي حاليا" تحديثا للقواعد المنظمة لمزاولة أعمال الصرافة في المملكة، لتحل محل القواعد الصادرة عام 1432، لتوسيع نطاق انتشار أعمال الصرافة وتسهيل تقديمها، وتعزيز الشمول المالي، إضافة إلى تحفيز الابتكار والمنافسة، واستخدام التقنية في قطاع الصرافة، وحماية حقوق العملاء، حيث صرح البنك المركزي لأجهزة صرف عملات أسوة بالبنوك، وذلك لتسهيل الحصول على العملات في مختلف المناطق.
توظيف التقنية
قال لـ"الاقتصادية" البنك المركزي السعودي، "إن عدد العاملين في قطاع الصرافة يبلغ 727 موظفا وموظفة"، مشيرا إلى أنه يعد الجهة المعنية بالإشراف والرقابة على مراكز الصرافة في المملكة وفقا للصلاحيات الممنوحة له بموجب نظامه، الصادر بالمرسوم الملكي رقم (م/36) وتاريخ 11/4/1442، وبما يحقق أهدافه بدعم استقرار القطاع المالي، وتعزيز الثقة به، وكذلك وفقا للقواعد المنظمة لمزاولة أعمال الصرافة في المملكة، ويمارس البنك المركزي هذا الدور من خلال توجيه مراكز الصرافة بتزويده بعدد من البيانات الدورية، وكذا يقوم البنك بطلب بيانات وسجلات للتحقق من التزام مراكز الصرافة.
وأضاف البنك المركزي السعودي، "حرصا منه على مواكبة أحدث التطورات في القطاع المالي، وسعيا إلى تحقيق أهدافه في تطوير القطاع، فقد تم في عام 1441 تحديث القواعد المنظمة لمزاولة أعمال الصرافة في المملكة لتحل محل القواعد الصادرة عام 1432 التي تعد نقلة نوعية كبيرة لمهنة الصرافة في المملكة، حيث عملت على توسيع نطاق انتشار أعمال الصرافة وتسهيل تقديمها، وتعزيز الشمول المالي، وكذلك تحفيز الابتكار والمنافسة، واستخدام التقنية في خدمات الصرافة، وأيضا تعزيز حماية حقوق العملاء".
كما تضمنت القواعد عددا من التغيرات المحورية أبرزها، تمكين مزاولة النشاط من خلال عدد أكبر من الأشكال القانونية دون الحصر على شركات التضامن أو المؤسسات الفردية، كما كان في السابق، بحيث يمكن أن يتخذ مركز الصرافة أيضا شكل شركة مساهمة أو ذات مسؤولية محدودة، وكذلك تمكين الاستثمار الأجنبي في القطاع عن طريق السماح بترخيص فروع الشركات الأجنبية المرخص لها بمزاولة أعمال الصرافة لتقديم خدماتها في المملكة، ويستهدف دعم استمرارية النشاط وتشجيع دخول المستثمرين.
كما جاءت القواعد المحدثة بأحكام تنظم آلية تقديم الخدمات الإلكترونية لمواكبة التحول الرقمي وتنويع الخيارات المتاحة للعملاء، وكذلك شملت التغيرات تنظيم نشاط استيراد وتصدير النقد بما يتفق وطبيعة هذا النشاط والمتطلبات النظامية لمزاولته، سواء من حيث حجم رأس المال أو متطلبات مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب أو غيرها.
وفيما يخص التطورات التقنية، أوضح البنك المركزي السعودي، أنه يعمل على تشجيع التطوير والتحول التقني في قطاع الصرافة، ومن ذلك على سبيل المثال، تقديم خدمة أجهزة نقاط البيع POS للعملاء الراغبين في تبديل العملات، وتقديم خدمة التحويل للحساب البنكي لإجراء عملية تبديل العملات.

الأكثر قراءة