الرقمنة وشؤون الاقتصاد والمجتمع
يهتم هذا المقال بموضوع "الرقمنة"، وهو موضوع تميز، على مدى عقود، بتقديم معطيات مهمة أثرت في حياتنا، كما أنه موضوع يحمل أيضا آثارا مستقبلية واعدة ترتبط بتجدده المتواصل دون توقف. ولكي نستطيع طرح هذا الموضوع، وبيان جوانبه المختلفة، وإيضاح تفاعله مع الحياة، ومناقشة آفاقه المستقبلية، لعلنا نبدأ بتعريف تقليدي لمصطلح "الرقمنة" أطلقته جهة دولية معروفة في 2018، في وثيقة لها حول قياس الاقتصاد الرقمي. هذه الجهة الدولية هي "صندوق النقد الدولي"، ويقول تعريفها للرقمنة التالي:
"تتضمن الرقمنة مجالا واسعا من تطبيقات التقنية الرقمية يشمل نماذج أعمال ومنتجات تؤدي إلى تحول أعمال اقتصادية ونشاطات اجتماعية إلى التنفيذ عبر هذه التطبيقات".
وتزيد الوثيقة على هذا التعريف قولا آخر هو، "إن في الرقمنة تمكينا لأعمال جديدة، وأيضا تغييرا لأعمال تقليدية معتادة".
ولعلنا نلاحظ في التعريف، وفي هذا القول أيضا، ثلاثة أمور رئيسة:
يتمثل الأمر الأول بحقيقة أن الرقمنة تستند إلى "وسائل". وتتمثل هذه الوسائل بالتقنية الرقمية وتطبيقاتها. ومصدر هذه الوسائل هو "القطاع الرقمي r". ويشمل هذا القطاع "معدات وبرامج تنتمي إلى التقنية الرقمية التي تتضمن تقنيات المعلومات والاتصالات، والتطبيقات والخدمات التي تستند إليها، ومنصات التعامل والشراكة والعمل إلكترونيا". بذلك تدخل الإنترنت وخدماتها، والفضاء السيبراني ومعطياته، والذكاء الاصطناعي وإمكاناته، ضمن إطار هذا القطاع.
وننتقل إلى الأمر الثاني الذي يرتكز على حقيقة ثانية هي أن للرقمنة "أثرا". ولهذا الأثر جانبان رئيسان: جانب اقتصادي يعبر عنه بمصطلح "الاقتصاد الرقمي"، وجانب مجتمعي يعبر عنه بمصطلح "المجتمع الرقمي ". ويعد "الاتحاد الأوروبي EU" إحدى أبرز الجهات التي اهتمت بهذا الأثر، وبالعمل على تقييمه، ووضع دليل ومؤشرات له. فقد طرح الاتحاد هذا الدليل 2014، تحت اسم "دليل الاقتصاد والمجتمع الرقمي DESI".
بدأ الاتحاد، منذ ذلك الحين، قياس حالة كل دولة من دول الاتحاد في مؤشرات الدليل، بشكل سنوي، ورافق ذلك تقديم وثيقة سنوية بهذا الشأن تبين مكامن قوة الدول المختلفة ومواطن ضعفها، في مختلف جوانب أثري الرقمنة الاقتصادي والاجتماعي. وتم إصدار آخر وثيقة بهذا الشأن 2022. وتتيح نتائج هذه الوثيقة التعرف على ما يجب التخطيط لتطويره من جهة، إضافة إلى تحديد احتمالات التعاون، في إطار كل مؤشر، بين الدول التي تتميز بقوة المؤشر فيها، وتلك التي تعاني ضعفه. وسنطرح مزيدا حول الدليل ومؤشراته، بعد استكمال الأمر الثالث التالي.
وهكذا نصل إلى الأمر الثالث، بشأن القطاع الرقمي، حيث يتجلى هذا الأمر في "البعد الزمني والتطور المتواصل" للتقنية الرقمية وتطبيقاتها وخدماتها. فالإلكترونيات التي تمثل جوهر التقنية الرقمية تتطور، ويمكن ذلك من جعل البرامج والتطبيقات التي تنفذ إلكترونيا أكثر قدرة على تنفيذ المهمات المعقدة، وأكثر ذكاء في فتح آفاق لمعطيات غير مسبوقة. وهكذا، وعبر حقائق القطاع الرقمي الثلاث، أي حقائق "الوسائل، والأثر، والتجدد المستمر"، تبرز الرقمنة كموضوع يلقى اهتمام الجميع، ويستحق أن يلقى المزيد، من أجل الاستفادة المتجددة من معطياته على أفضل وجه ممكن، عبر إدارة فاعلة، تهتم بمختلف جوانبه.
نعود، كما أشرنا سابقا، إلى دليل الاتحاد الأوروبي الخاص بالاقتصاد والمجتمع الرقمي. يتكون هذا الدليل من أربع مجموعات من المؤشرات: تهتم أولى هذه المجموعات "برأس المال البشري"، وتركز على مهارات مستخدمي الرقمنة في الاستفادة منها، وعلى قدرات متخصصي الرقمنة في إدارة شؤونها، ويبلغ عدد مؤشرات هذه المجموعة سبعة مؤشرات.
تركز المجموعة الثانية للدليل على "تقنيات تواصل المستخدمين مع الإنترنت والفضاء السيبراني"، وتؤكد بصورة خاصة في هذا المجال على تقنيات النطاق العريض التي توفر تعاملا فاعلا مع وسائط المعلومات الثلاث، البيانات والصوت والصورة، دون معوقات، وتهتم أيضا بتكاليف استخدام هذا النطاق. ولهذه المجموعة أربعة أفرع تتضمن تسعة مؤشرات.
تنظر المجموعتان الثالثة والرابعة في دور "المؤسسات" في تفعيل استخدام الرقمنة والاستفادة منها. وتركز المجموعة الثالثة هنا على مؤسسات الأعمال، بينما تهتم المجموعة الرابعة بالمؤسسات الحكومية. وتأخذ المجموعة الثالثة في الحسبان المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، والنشاطات الرقمية المختلفة المرتبطة بها، بما في ذلك التجارة الإلكترونية، والحوسبة السحابية، وتطبيقات الذكاء الاصطناعي. ويبلغ عدد مؤشرات المجموعة الثالثة 11 مؤشرا. أما المجموعة الرابعة فتركز على نشاطات الحكومة الإلكترونية، وخدماتها العامة، وتتضمن خمسة مؤشرات.
وهكذا نجد، في خلاصة ما سبق، أن أثر الرقمنة الاقتصادي والاجتماعي في الدليل الأوروبي يتضمن ثلاثة محاور رئيسة: محور الإنسان ومهارات المستخدمين وإمكانات الخبراء، ومحور تقنيات التواصل واسعة النطاق وتكاليفها، ثم محور مؤسسات الأعمال والمؤسسات الحكومية واستخدامها للرقمنة. ولا شك أن في هذه المحاور الثلاثة ما يعبر، ولو بشكل عام، عن فوائد استخدام معطيات قطاع الرقمنة اقتصاديا أولا واجتماعيا ثانيا. ولا يتطرق هذا الدليل إلى مسألة تقديم منتجات مفيدة لقطاع الرقمنة يمكن أن تكون لها آثار إيجابية أخرى اقتصاديا واجتماعيا أيضا.
ولعلنا نلقي، في التالي، نظرة عامة على الرقمنة في المملكة، حيث يتمتع قطاعها ببنية متطورة، ويحظى باهتمام متميز، دعما وتطويرا واستخداما، على جميع المستويات. يبدأ "اللاعبون" في هذا المجال من المستخدمين الأفراد، والمستخدمين ومقدمي الخدمات على مستوى المؤسسات الحكومية، ومؤسسات الأعمال. ثم يأتي "الممكنون" لذلك على المستوى الحكومي مثل وزارة الاتصالات وتقنية المعلومات، وهيئة الاتصالات وتقنية المعلومات، وهيئة الحكومة الرقمية، وهيئة الأمن السيبراني، وهيئة الذكاء الاصطناعي، والممكنون لذلك على مستوى القطاع الخاص، مثل شركة الاتصالات السعودية وغيرها، إلى جانب الشركات المنتجة للتقنية الرقمية، كشركة الإلكترونيات المتقدمة.
ونقول في الختام، إن الرقمنة في العالم قطعت شوطا بعيدا من التقدم، وهناك أشواط تنتظرها في المستقبل، "فالإلكترونيات، والذكاء الاصطناعي، والميتا ـ فيرس، وربما تقنيات رقمية أخرى" في تقدم مستمر لا ينتظر أحدا. ولا شك أن علينا كأفراد ومؤسسات أن نهتم بتفعيل استخدام الرقمنة، وتحقيق مزيد من الفوائد الاقتصادية والاجتماعية منها، بما يؤدي إلى تفعيل التنمية وتعزيز استدامتها.