العالم السيبراني ودليل الجاهزية الشبكية
أبلت التقنية الرقمية، والإلكترونيات التي تستند إليها، بلاء حسنا في تقديم، وكذلك تمكين، معطيات جذابة متجددة، مع مرور الزمن، لتؤثر من خلالها تأثيرا متزايدا في حياة الإنسان أينما كان. فقد شهد القرن الـ19 ظهور الكهرباء، وبدايات الاتصالات السلكية منها، ثم اللاسلكية. وشهد منتصف القرن الـ20 بروز الحاسوب وأدواته الإلكترونية. وبرزت الشبكات الحاسوبية مستفيدة من الاتصالات والحاسوب معا، في سبعينيات ذلك القرن، لتتوحد معا، بعد ذلك، في تسعينياته وتهدينا شبكة الشبكات، الإنترنت، التي جمعت العالم معلوماتيا من أقصاه إلى أقصاه.
قدمت الإنترنت بنية معلوماتية أساسية لتطبيقات عديدة يستفيد منها الجميع.
وعبر هذه التطبيقات المعلوماتية المتنوعة والمتزايدة، برز الفضاء السيبراني، لينقلنا معلوماتيا إلى عالم جديد، يتعزز تدريجيا بالذكاء الاصطناعي ومعطياته الواعدة بمفاجآت ربما تتجاوز أعلى التوقعات. وحول هذا العالم وبنيته وتطبيقاته واستخداماته برزت تعبيرات مختلفة تحمل معاني ودلالات على أثر هذا العالم في حياة الإنسان حاضرا ومستقبلا. ومن هذه التعبيرات التحول الرقمي، والرقمنة، والاقتصاد الرقمي، والمجتمع الرقمي، وغير ذلك. وتؤكد هذه التعبيرات في جوهرها فوائد معطيات العالم السيبراني، وضرورة التوجه نحو الاستفادة منها على أفضل وجه ممكن.
تحدثنا في المقال السابق عن الرقمنة، وعن دليل الاقتصاد والمجتمع الرقمي الصادر عن الاتحاد الأوروبي، الذي يتضمن 32 مؤشرا. وأوردنا الأفكار الرئيسة التي يقدمها هذا الدليل في تقييمه مشهد الاقتصاد والمجتمع الرقمي، من خلال أربع مجموعات من المؤشرات. وتشمل هذه المجموعات: مجموعة تركز على رأس المال البشري، وأخرى على تقنيات تواصل المستخدمين مع الإنترنت والفضاء السيبراني، وثالثة على دور مؤسسات الأعمال، ثم رابعة على دور المؤسسات الحكومية. وتأتي أهمية التقييم من التعرف على مكامن القوة في الموضوعات المطروحة، ومواطن الضعف فيها، بما يساعد على تحديد توجهات المستقبل نحو الوصول إلى الأفضل.
يستكمل هذا المقال مسألة تقييم العالم السيبراني من خلال عرض ومناقشة دليل مهم آخر، في هذا المجال، هو دليل يدعى "دليل الجاهزية الشبكية NRI". قام هذا الدليل، 2022، بتقييم 131 دولة حول العالم، مستخدما 58 مؤشرا. وتنتمي هذه المؤشرات إلى ثلاثة أصناف رئيسة تشمل، مؤشرات كمية وعددها في الدليل 35 مؤشرا، ومؤشرات نوعية تستند إلى مسوحات لعينات مختارة، وعددها 11 مؤشرا، ومؤشرات مركبة، كل منها دليل بذاته، يتكون من أكثر من مؤشر، وعددها 12. وتتمتع مؤشرات هذا الدليل بتكوين هرمي من ثلاثة مستويات. هناك في المستوى الأعلى أربع مجموعات في موضوعات التقنية، والإنسان، والحوكمة، والأثر. ولكل من هذه المجموعات ثلاث باقات من المؤشرات، أي أن للدليل 12 باقة من المؤشرات، لكل منها وسطيا نحو خمسة مؤشرات. وفيما يلي عرض للقضايا التي يطرحها الدليل عبر هذا التكوين.
تمثل مجموعة التقنية في الدليل البنية الأساسية التي تستند إليها الإنترنت، وكذلك العالم السيبراني. وتهتم الباقة الأولى من مؤشرات هذه المجموعة بتقييم حالة النفاذ إلى الإنترنت سلكيا ولاسلكيا، إضافة إلى مدى سعة هذا النفاذ، وحجم وجوده في المدارس حيث تستفيد أجيال الناشئة من هذا النفاذ. أما باقة المؤشرات الثانية هنا، فتركز على تقييم المحتوى المعلوماتي للإنترنت، بما في ذلك البحوث القائمة في مجال الذكاء الاصطناعي، ويؤسس هذا المحتوى لنشاطات العالم السيبراني. وتأتي الباقة الثالثة لمؤشرات هذه المجموعة، بعد ذلك، لتنظر في تقييم شؤون تقنيات المستقبل الرقمية.
تختص المجموعة الثانية للدليل بتقييم شؤون الإنسان في شبكة الإنترنت والعالم السيبراني. وتنظر المجموعة إلى هذه الشؤون نظرة ثلاثية الجوانب تشمل ما يتعلق بالإنسان الفرد، وما يرتبط بشؤون مؤسسات الأعمال، إضافة إلى ما يتعلق بالشؤون الحكومية. وتعطي هذه المجموعة باقة من المؤشرات لكل من هذه الجوانب.
تهتم المجموعة الثالثة للدليل المطروح بتقييم حوكمة العالم السيبراني. ويشمل ذلك كلا من جانب تقييم الثقة بالخدمات المقدمة، وما يرتبط بذلك من أمور تتعلق بالأمن السيبراني، ثم جانب تقييم الأنظمة المتبعة في حوكمة العمل السيبراني، إضافة إلى جانب تقييم المشاركة والشمولية في إتاحة الخدمات السيبرانية للجميع. ولكل من هذه الجوانب الثلاثة باقة من مؤشرات التقييم المختلفة.
ونصل إلى مجموعة التقييم الرابعة في دليل الجاهزية الشبكية، وهي المجموعة الخاصة بتقييم مشهد الأثر. وتهتم هذه المجموعة، بتقييم كل من الجانب الاقتصادي، وجانب جودة الحياة، إضافة إلى جانب تقييم الحالة الراهنة لخمسة من أهداف التنمية المستدامة الـ17 التي وضعتها الأمم المتحدة للعالم 2015، التي يفترض التمكن من تحقيقها 2030. وكما في السابق، هناك باقة من المؤشرات لكل من هذه الجوانب.
ترتبط أهداف التنمية المستدامة الخمسة التي تم أخذها في الحسبان في تقييم الأثر بكل من: شؤون الصحة وحسن المعيشة، وجودة التعليم، والفرص الاقتصادية للمرأة، والطاقة النظيفة، إضافة إلى استدامة المدن والتجمعات السكانية. وربما يحتاج موضوع الجاهزية الشبكية للعالم السيبراني، وارتباطه بمجالات التنمية المستدامة هذه، دون غيرها، إلى مزيد من المناقشة في المستقبل.
إذا نظرنا إلى المؤشرات الـ58 في دليل الجاهزية الشبكية، والمؤشرات الـ32 في دليل الاقتصاد والمجتمع الرقمي لرأينا تشابها واختلافات. التشابه متوقع لأن في الموضوع المستهدف كثيرا من العوامل المشتركة، والاختلاف أيضا متوقع بسبب اختلاف تركيز كل من الدليلين على جوانب يود إبرازها للتوافق مع الاسم المختار. وعلى أي حال يبدو دليل الجاهزية الشبكية أوسع تغطية للعالم السيبراني من دليل الاقتصاد والمجتمع الرقمي. ولعل من المناسب هنا البحث في وضع دليل شامل للعالم السيبراني يستطيع دمج كل ما ورد في الدليلين، إضافة إلى مؤشرات وأدلة أخرى معنية بقضايا العالم السيبراني.
ولا شك أن التوجه نحو وضع واستخدام أدلة ومؤشرات موثقة تعكس شؤون القضايا المؤثرة في المستقبل ضرورة للتخطيط والمتابعة وتحقيق الطموحات في استدامة التميز، وجعل المستقبل أكثر إشراقا بمشيئة الله.