المحتوى الرقمي .. النشأة ووجهات نظر «2 من 2»
اهتم المقال السابق بالمحتوى الرقمي، وذلك في ضوء الجلسة الحوارية حول المحتوى الرقمي للأطفال والشباب، التي أقامتها وزارة الاتصالات وتقنية المعلومات، في أغسطس الماضي. وتحدث المقال عن نشأة المحتوى المعلوماتي الرقمي، وشؤون استخدامه، وتطوره عبر الزمن. طرح المقال ظهور الشبكات الحاسوبية في أواخر الستينيات من القرن الماضي، حيث بدأ تبادل المعلومات عن بعد بين أصحاب العلاقة في مراكز الشبكة الحاضنة للمحتويات الرقمية. وتلا ذلك ظهور شبكة الشبكات "الإنترنت" ووسيلتها العنكبوتية المعلوماتية "الويب" التي أفرزت الخدمات المعلوماتية الرقمية في شتى المجالات الحكومية وغير الحكومية. وتواصل التطور بعد ذلك، ببروز الشبكات الاجتماعية التي حولت الجميع، ليس فقط إلى متلقين للمعلومات والخدمات الرقمية، بل إلى صانعين لها أيضا، وربما، في بعض الأحيان، إلى مستخدمين للذكاء الاصطناعي في تعزيز إمكانات هذه الخدمات، سواء في جوانبها الإيجابية، أو حتى السلبية.
ناقشت الجلسة الحوارية سابقة الذكر المحتوى الرقمي الخاص بالأطفال والشباب ومعطياته، في إطار شبكات التواصل الاجتماعي. وجاء ذلك من منطلقين اثنين، أولهما حقيقة أن الأطفال والشباب هم الأكثر تفاعلا مع هذا المحتوى وتأثرا به، وثانيهما أن في هذا المحتوى جوانب إيجابية يجب تعزيزها وتمكين هؤلاء منها، وفيه أيضا جوانب سلبية ينبغي العمل على حمايتهم منها. وأقيمت الجلسة الحوارية على مرحلتين، شملت كل منهما حوارا مع ثلاثة من الخبراء، إلى جانب تشجيع الحضور، ليس فقط على السؤال، إنما على بيان الرأي أيضا. وسنستعرض فيما سيأتي من هذا المقال الحقائق التي وردت في الجلسة، ونتطرق إلى الآراء التي حظيت بالاتفاق، ونبين بعض وجهات النظر الخاصة بشأنها، إضافة إلى طرح بعض التعليقات الجانبية.
شملت الحقائق التي تم طرحها في الجلسة الحوارية بيانا لأهمية المحتوى الرقمي الذي يستهدف الأطفال والشباب، نظرا لتأثيره المتوقع في ثقافتهم وتوجهاتهم، وإسهامه في تشكيل سلوكهم ومستقبلهم، وتداعيات ذلك على المجتمع. وعلى أساس هذه الحقيقة اتفقت الآراء على الحاجة إلى تفعيل الخصائص الإيجابية للمحتوى الرقمي الموجه إلى مختلف الفئات العمرية في فترة النشأة وتكوين الشخصية. كما اتفقت أيضا على الحاجة إلى ضوابط مسؤولة للحد من أثر الخصائص السلبية للمحتوى الرقمي. وشمل ذلك مسؤولية الأسرة تجاه أبنائها، والمسؤولية الاجتماعية لصناع المحتوى وأصحاب منصاته تجاه المجتمع، إضافة إلى المسؤولية التشريعية على مستوى الدولة. ولعلنا نضيف هنا مسألة الاهتمام بذلك على المستوى الدولي، حيث يقضي الاتحاد الدولي للاتصالات، في دليله العالمي حول تقييم مستوى أمن العالم السيبراني في الدول المختلفة، بضرورة حماية الأطفال من سلبيات ما هو متاح في هذا العالم.
تضمنت الحقائق التي وردت في الجلسة بشأن دور الدولة في الحماية، حقيقة وجود قوانين للجرائم المعلوماتية في المملكة، وحقيقة دور وزارة الإعلام في الترخيص لصناع المحتوى، ودور وزارة الثقافة في التوعية العامة. ويضاف إلى ذلك دور وزارة الاتصالات وتقنية المعلومات في شؤون المحتوى الرقمي، وجهودها في برنامج "إجنايت" الذي يقدم منصة لصناعة محتوى رقمي سعودي، الذي يطرح توجها يقول "نبتكر معا عصرا جديدا لمحتوى رقمي يمثلنا، يلامسنا، ويميزنا". وعلى أساس هذا التوجه، يتعاون البرنامج حاليا مع 20 جهة حكومية، كما هو وارد على موقعه على الإنترنت. ولعل من المناسب هنا ذكر ما ورد في موضوع المسؤولية الاجتماعية لصناع المحتوى، حيث أشار البعض إلى حقيقة أن كثيرين من صناع المحتوى داخل المملكة يدركون واجبهم تجاه تبني الإيجابيات فيما يطرحونه من محتوى، وضرورة الابتعاد عن السلبيات.
في إطار الآراء بشأن حماية الناشئة على مستوى الأسرة، اتفقت الآراء على ضرورة وجود رقابة أسرية، بل على استخدام التقنيات المتاحة لذلك. وكان هناك رأيان في هذا المجال، بينهما اتفاق في الهدف، وبعض الاختلاف في الأسلوب. فقد دعا أحدهما الآباء إلى مراقبة الأجهزة الحاسوبية التي يستخدمها الأبناء، والاطلاع على المواقع والفيديوهات التي يشاهدونها من أجل منعهم من ذلك، وتوجيههم نحو الاتجاه الصحيح. أما الرأي الآخر فدعا إلى إتاحة الفرص للأبناء، للتعرف على السلبيات المطروحة، وتوعيتهم بشأن سيئاتها، كي يكونوا هم الحكم في الابتعاد الذاتي عنها. ولعل الأمر هنا يرتبط بشؤون الوعي، في إطار الفئة العمرية.
ركزت بعض الحقائق التي طرحت في الجلسة على البعد الاقتصادي للمحتوى الرقمي، وعلى فكرة أن استدامة أي محتوى ترتبط بالأرباح التي يقدمها لأصحابه. وتم في هذا المجال، ذكر بعض الأمثلة حول مؤسسات نشأت ونمت وأتاحت فرص عمل لكثيرين، بسبب نجاح محتواها الرقمي في السوق. وبرزت هنا آراء مهمة بضرورة تخصص المحتوى في الموضوعات التي يطرحها من ناحية، وفي الفئة العمرية التي يستهدفها من ناحية ثانية. وتضمنت هذه الآراء الحاجة إلى التدريب على صناعة المحتوى المتخصص والاستفادة من الخبرات السابقة. وتقول إحدى هذه الخبرات إن المحتويات التي تطرح موضوعات جادة، تحتاج إلى جانب فني ترفيهي لائق، يجدد انتباه المتلقي، خصوصا الناشئة، من صغار السن.
في موضوع التخصص والتدريب، تم ذكر حقيقة مفادها أن إحدى المنصات الدولية للمحتوى الرقمي، تسهم في تدريب ومساعدة أصحاب المحتوى العاملين معها، وتحرص في طرح المحتوى الرقمي في مناطق العالم المختلفة على عدم تحدي ثقافات هذه المناطق. وقد يكون هذا الأمر قائما أيضا في منصات أخرى. ولعل من المناسب هنا القول بالحاجة إلى منظمة دولية تجمع منصات الشبكات الاجتماعية على مستوى العالم، وتضع معايير لميثاق عالمي مشترك لأخلاقيات المحتوى الرقمي العالمي. وتكتسب هذه الفكرة أهمية خاصة مع الدخول المشهود للذكاء الاصطناعي إلى العالم السيبراني والمحتويات الرقمية المتاحة فيه.
لا شك أن الاستفادة من إيجابيات المحتوى الرقمي المتاح في العالم السيبراني باتت ضرورة من ضرورات العصر، كما أن الحماية من سلبياته أصبحت ضرورة أخرى أيضا. وكما ورد في الجلسة الحوارية، لا بد من الحكمة في تحقيق "التوازن" بين "تمكين" الاستفادة من الإيجابيات، وبين "الحماية" من السلبيات.