أوروبا .. خوف من انكماش

"سنحافظ على تشديد السياسة النقدية طالما تطلب الأمر ذلك"
كريستين لاجارد، رئيسة البنك المركزي الأوروبي
المشهد الاقتصادي الأوروبي على الساحة غير واضح، وهو كذلك لأنه جزء أصيل من الاقتصاد العالمي الذي تحيط به الشكوك من كل جانب، على الرغم من بعض القفزات النوعية التي تحققت في العام الجاري، ولا سيما على صعيد النجاح في خفض مستويات التضخم، وإن بمعدلات متواضعة جدا، مقارنة بالأهداف الموضوعة من المشرعين الاقتصاديين عموما. وأوروبا عموما، والاتحاد الأوروبي خصوصا، يواجه ضغوطا كبيرة على الصعيد الاقتصادي، مع الالتزام الذي يبدو لا حدود له، بتحمل أعباء تكاليف الحرب الدائرة في أوكرانيا، وما تركته هذه الحرب في الفترة الماضية من آثار خطيرة على صعيد إمدادات الطاقة، وسلاسل التوريد عموما، بما في ذلك السلع الغذائية الأساسية التي تأتي عادة بكميات هائلة سنويا من كل من روسيا وأوكرانيا على حد سواء.
الهم الذي يواجه اقتصاد الاتحاد الأوروبي عموما، واقتصاد منطقة اليورو خصوصا، هو ذاته الموجود على الساحة الأمريكية، وينحصر في تحقيق النجاح ليس على صعيد النمو، بل في تجنب الانزلاق نحو ركود لن يكون سهلا. ولا يخفي المسؤولون الأوروبيون مخاوفهم في هذه النقطة، فباولو جنتيلوني مفوض الاقتصاد في الاتحاد الأوروبي يقول صراحة: "إننا نواجه أزمة مزدوجة؟" وهو في ذلك يشير إلى التأثير الجيوسياسي الآتي من جهة الحرب في أوكرانيا، والضربة الاقتصادية التي تلت ذلك للقارة الأوروبية عموما. ومن هنا يبقى التحدي الأكبر في قدرة هذه القارة على تجنب ركود، وإن فضلت التباطؤ كغيرها. فهذا الأخير يبقى أهون الشرور الاقتصادية، بحيث "تناضل" دولة مثل الولايات المتحدة الحفاظ عليه لضمان عدم الدخول في دائرة الانكماش. علما بأن الاقتصاد الأمريكي حققت قفزات كبيرة ومهمة بصورة أكبر من تلك التي تحققت في الفترة الماضية على الساحة الأوروبية.
من المشكلات التي تواجه اقتصاد منطقة اليورو، تلك الناجمة عن تعليق العمل بقواعد "ميثاق الاستقرار والنمو" من العام 2020، وذلك لمساعدة الحكومات على مواجهة تداعيات جائحة كورونا اقتصاديا، التي تلتها الحرب في أوكرانيا. تلك الحرب التي أثرت بقوة على أسعار الطاقة والغذاء في آن معا. وفي العام المقبل سيتم العودة للعمل بهذا "الميثاق" بعدما تم الاتفاق على إنهاء تجميده. إلا أن تبعاته تترك بالطبع آثارها السلبية على الأداء الاقتصادي، بما في ذلك ارتفاعات قياسية للديون السيادية التي بلغت في بعض الدول الأوروبية أكثر من قيمة ناتجها المحلي الإجمالي، مع ضرورة الإشارة إلى أن هذه الديون لم تصل إلا إلى 60 في المائة فقط في ألمانيا، التي تتمتع بأكبر اقتصاد في القارة العجوز. فحتى اقتصاد ألمانيا القوي عادة، واجه في الآونة الأخيرة تباطأ كبيرا، وتراجع حجم الإنتاج بصورة لافتة جدا.
وفق التوقعات المتفائلة، لن يحقق اقتصاد منطقة اليورو هذا العام نموا يتجاوز 0.6 في المائة، لكن التوقعات الأكثر واقعية تشير إلى إمكانية ألا يحقق أي نسبة نمو بحلول نهاية العام. في حين سجل نموا في العام الماضي بلغ 3.4 في المائة. والنمو البسيط جدا المتوقع للعام الجاري، يفسح المجال أمام وقوف اقتصاد اليورو عند حافة الانكماش فعلا، إن لم يدخلها بداية العام المقبل. وفي كل الأحوال، لا توجد أدوات مساعدة لحماية الاقتصاد من الوقوع بالانكماش، لماذا؟ لأن سياسة التشديد النقدي متواصلة، حيث وصلت الفائدة الأساسية على اليورو إلى نحو 5 في المائة، في حين أن التضخم سجل الشهر الماضي 4.3 في المائة، منخفضا من 5.2 في المائة عن الشهر الذي سبقه. بالطبع هذا الانخفاض يمثل قوة دفع جيدة للحراك الاقتصادي، إلا أن المعدل الذي يقف عليه حاليا يبقى بعيدا عن 2 في المائة وهو الحد الأقصى الرسمي الذي يجب أن يكون التضخم عنده.
على هذا الأساس، يتم النظر بحذر في توقعات النمو، فالفائدة المرتفعة تقضم النمو، والمال الرخيص الذي كان متوافرا قبل عامين، لم يعد له وجود، وسيستمر الحال على ما هو عليه ربما حتى ما بعد منتصف العقد الحالي. وهنا لا بد من النظر باهتمام إلى ما قالته كريستين لاجارد أخيرا، بأن "صناعة القرار في عصر متغير، تتطلب عقولا متفتحة، وإرادة قوية لتغيير أنماط التحليل، مواكبة التطورات في إطارها الزمني". ماذا يعني ذلك؟ يعني أن السياسات التي سيواصل المشرعون الماليون اتباعها ستكون واقعية تماما، ما يترك سياسات التيسير الكمي بعيدة عن الساحة. ومعنى ذلك أيضا، أن اقتصاد منطقة اليورو سيبقى في الأسابيع القليلة المقبلة متأرجحا بين نمو ضئيل للغاية، وانكماش يلوح في الأفق. فحتى التباطؤ قد يدخل في نطاق الآمال.
الاقتصاد الأوروبي عموما، يعيش فترة أكثر حرجا، وهو أكثر سوءا من حيث الأداء مقارنة بالاقتصاد الأمريكي. فهذا الأخير تمكن من إيصال التضخم إلى مستويات قريبة من 2 في المائة بفترة زمنية تعد قصيرة، ومع ذلك يلتزم المشرعون هناك برفع سلاح الفائدة كملاذ وحيد لهم لـ"النصر" في المعركة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي