المهارات أم الشهادات؟
ظهر في وسائل التواصل وحتى في بعض القنوات الإعلامية من يرى أن المهارات أهم من الشهادات الجامعية، وأن الخبرات هي المعول عليها من أجل تحقيق إنجاز ملحوظ، وجاءت سرديات عن جهود عصامية لبناء منشآت اقتصادية كبيرة لم تكن للشهادات دور في هذا الإنجاز، ومن هنا ظهر تساؤل عن دور الشهادات الجامعية، وهذا سؤال مراوغ إلى حد بعيد، يهدف إلى التقليل من شأن الشهادات الجامعية.
قبل الدخول في نقاش هذا السؤال يجب أن أضع حقيقة هي أن الشهادات الجامعية والمهارات تصب في موضوع واحد وهو العلم، وكأن السؤال المراوغ الذي أشرت إليه يحاول أن يضع العلم في جانب من لديه المهارات، وليس في جانب من لديه الشهادات العلمية، وقد يقول قائل إن النقاش لم يتطرق لموضوع العلم، وهذا صحيح، لكن المسألة كلها تدور في هذا الموضوع الشائك جدا، ما هو العلم؟ لقد أشغلت أسئلته فلاسفة العالم منذ بدايات عصر التدوين والتاريخ، ومن الذي لديه العلم؟ العلم يقتضي مسألة في غاية الأهمية، وهي التنبؤ بالمستقبل، من يدعي علما يدعي ضمنا أن لديه القدرة على التنبؤ بالمستقبل، بعبارة أخرى فإن اتخاذ قرار بشأن ماذا سيكون في الغد يتطلب أحد أمرين، إما أن يتم ذلك بناء على معطيات من دراسة أحداث وبيانات من الماضي "تاريخية" أو أن يتم اتخاذ القرار بناء على التخمين الذاتي، مجرد توقعات عامة، "ظن". مثال ذلك، اتخاذ قرار بشأن الاستثمار في شراء الأسهم، قد يقوم أحدهم بمراجعة تاريخ سوق الأسهم وما هي تجارب الآخرين بشأن شراء وبيع الأسهم، وقد يتم هكذا دون تخطيط، فقط بيع وشراء بحسب الظن، ومثال ذلك أيضا في دخول سوق العقار أو الاستثمار في تجارة التجزئة، كل ذلك قد يكون وفق دراسة تاريخية لكل المعطيات أو وفق الظن الشخصي.
إذا كان الشخص يتخذ مثل هذه القرارات في ماله الخاص وهو فقط من يتحمل الخسارة والربح، فهو بشكل ما حر في اتباع ما يريد، لكن إذا كان يقوم بذلك نيابة عن الآخرين فإن هناك مسؤولية قانونية، ولا بد له من تبرير قراراته أو يتعرض لتهمة التبديد. لتجنب تهمة التبديد يقوم متخذ القرار بالاعتماد على تجارب مدونة من الآخرين، فأين يجدها؟ وكيف يجدها؟ ومن يقوم بتفسيرها وتحليلها له؟ إذا قام بذلك شخصيا قد يقع في مشكلة التحيز، وعدم مناسبة البيانات التي جمعها مع القرار ثم يقع في مشكلة التبديد مرة أخرى، لذلك لا بد أن يقوم بجمع وتحليل التجارب السابقة وعرضها بشكل يحمي القرار، فكيف يحدد ذلك؟ قد يقول قائل يكفي هنا أن يكون لدى الشخص مهارات البحث هذه، نعم يكفي ذلك، لكن كيف يحصل على هذه المهارات؟ هناك الآلاف، بل الملايين اليوم الذين يدعون أن لديهم هذه المهارات، وأنهم يقومون بتدريب الآخرين عليها. قد يقرر البعض منا أن يذهب لأي هذه المواقع أو المراكز أو حتى المعاهد ويتلقى تدريب متخصصا في هذه المهارات، لكن لنتذكر أننا أمام مسؤولية مدنية عند التصرف بحقوق الآخرين، فإذا ادعينا أننا حصلنا على تدريب من مختصين فلا بد من توثيق ذلك، وهذا التوثيق هو الشهادات.
إذن الشهادات هي وثيقة امتلاك مهارات مختصة في مجال معين تم الحصول عليها من جهة مختصة، وهذه المهارات هي العلم الذي يساعد الشخص على اتخاذ قرار بشأن حقوق الآخرين، وتأكيد امتلاكه هذه المهارات هو الذي يمنحه الحماية المدنية ضد اتهامات تبديد الحقوق. وفقا لهذا فإن للمجتمع رأيا بشأن هذه الشهادات التي تمنح للأشخاص، فإذا حصل اتهام بالتبديد أمام محكمة، ودافع الشخص المتهم عن نفسه بالمهارات التي تعلمها في هذا الجانب وفقا للشهادات التي معه، فإن قبول القاضي لهذا الدفع مرهون بقبول المجتمع للشهادة التي حصل عليها، ويتحقق ذلك من خلال قيام المجتمعات المنظمة بإنشاء وكالات وهيئات تعتمد هذه الشهادات الصادرة عن الجهات التي تدعي تقديم تدريب متخصص في مهارات معينة. فالشهادات التي يتم الحصول عليها من معاهد وجامعات وجهات معتمدة هي وحدها التي تحمي الشخص من اتهام تبديد حقوق الآخرين، ومن يقوم بالتعامل مع حقوق الآخرين دون مثل هذه الحماية القانونية فإنه يعرض نفسه لأخطار جسيمة جدا مهما كانت تجاربه وخبراته، ونعم قد تكون تجاربه مفيدة جدا في شأنه الخاص، "وهذا ليس على إطلاقه أيضا" وقد يدعي أحدهم في القنوات الإعلامية ووسائل التواصل عدم حاجته للشهادات، وأن الخبرات والمهارات أهم، وهذا صحيح لكن في شأنه وحده خاصة في ماله، أما إذا أراد هو شخصيا أن يحمي نفسه من أخطاء الآخرين الذين سيتعامل معهم سواء في المستشفى أو القانون أو الأعمال أو أي شأن كان، فلا بد أن يذهب لمن لديه شهادة تثبت تأهيله، وبخلاف ذلك فإنه يعرض نفسه لخطر الإهمال الجسيم.
الشهادات مهمة جدا لحماية الإنسان الذي يمتلك المهارات من خطر التقاضي، ولا بد من أخذ هذه الشهادات من جهات معتمدة، قد نجادل قليلا في مسألة مستوى الشهادة المطلوبة، فهل تكفي شهادة مهنية، أو شهادة أكاديمية؟ وهل تكفي الدرجات العلمية الأساسية أم الدرجات العليا؟ هذا محل جدل واسع، ولا يمكن الفصل بشأنه، لكن مناط الأمر هو التقاضي، فمن يدعي مهارة بشأن معين فلا بد أن يثبت كيف حصل عليها، ولا بد أن يكون ذلك المصدر مقبولا في المجتمع. قد تدرك الآن عزيزي القارئ أهمية وعي المجتمع والفرق بين مجتمع متقدم وغيره، وأن القانون لا يحمي الشخص من إهماله الجسيم بحق نفسه والقانون أيضا ولا يحمي المجتمع من نفسه.