إعادة تشكيل الأسواق والتحالفات

التاريخ مليء بالظواهر التي تؤكد أنه لا توجد مناطق راحة طويلة الأجل، ومع ذلك فإن الجميع عادة يعملون على أساس مختلف، فلا يتوقع إلا قليلون أن الاختلالات مقبلة. يحدث التغيير في النظام الاقتصادي عندما لا يتحمل المجتمع الاختلالات في التوازن الاقتصادي الكلي التي تأخذ شكل تضخم السلع والخدمات، وتم تعديل عوائد الأخطار في الأسواق المالية لتتلاءم مع هذا الاختلال، وتتحول مناطق الراحة إلى عقد مظلم بالنسبة للمستثمرين ولمديري صناديق الاستثمار، فلا ملاذات آمنة إلا الأموال النقدية والأصول الحقيقية، وهذا يعني تدفقات نقدية خارجة من الصناديق يصعب تحملها، سواء كانت هذه التدفقات في شكل عوائد مرتفعة أو في شكل بيع وتخارج، المشكلة هي أنه لا أحد يريد أن يعمل في ظل التنبؤ بالأسوأ، هذا غير ممكن عمليا، ولا تستطيع المؤسسات المالية المركزية، والخبراء الاقتصاديون التحذير من الاختلالات باستمرار، المشكلة دوما هي في قرارات المستثمرين ومديري الصناديق التي تريد مناطق راحة مستدامة، بينما التاريخ أثبت خلاف ذلك.
كل هذه الصورة التي ذكرت سابقا واضحة جدا في تقرير نشرته "الاقتصادية" عن منتدى السندات السنوي لشركة إم آند جي إنفيستمنت في لندن الذي وضع تمثالا لفيل كتب عليه "6.2 في المائة، كناية عن التحدي الذي يواجهه مديرو الصناديق فمعدل الفائدة مرتفع وهذا أدنى ما يطلبه العميل اليوم من حسابات التوفير قصيرة الأجل فائقة الأمان، ويقول الرئيس التنفيذي في إدارة الأصول المدرجة على مؤشر فاينانشيال تايمز 100 "نحن الآن في بيئة مختلفة، كما يتم التخلص من عديد من الافتراضات التي كانت سائدة خلال الأعوام الـ15 الماضية. ومن أجل فهم هذه العبارة بشكل عميق يمكن القول، تم تعيين فولكر رئيسا للاحتياطي الفيدرالي في أغسطس 1979، بعدما حل التضخم ضيفا ثقيلا لعقود تضاعفت أسعار الفائدة حتى وصلت إلى ذروتها 20 في المائة في 1980، وظهر نظام جديد تماما، أرسى أسس الركود الاقتصادي، وظهر شكل آخر من التضخم -تضخم أسعار الأصول- وعندما تتضخم الفقاعات، فإنها تزيد عدم المساواة في الثروة، وعندما تنفجر، تولد الانكماش، ولم تكن لدى البنوك المركزية أدوات لمكافحة هذا الشكل المحدد من التضخم ما جعل البنوك المركزية تبني موقفا غير متسق في التعامل مع أسعار الأصول - فتخفض أسعار الفائدة عندما تنخفض، ولكن لا تعمل على رفع أسعار الفائدة عندما ترتفع بشكل حاد. وهذا الوضع صنع الأزمة المالية وما نتج بعدها من تحولات لمرحلة ما بعد الأزمة الذي اتسم بالنمو المنخفض والتضخم المنخفض، مع أسعار الفائدة المنخفضة. لقد شكلت مرحلة ما بعد الأزمة المالية منطقة راحة جديدة ظهر اعتقاد بوجود اتجاهات طويلة الأجل متمثلة في النمو الضعيف والتضخم المنخفض والاستقرار مع أدلة واضحة حول الركود المزمن وانخفاض نمو الإنتاجية، وضعف إمكانات النمو، والشيخوخة السكانية.
ومن هنا هذه القواعد الجديدة أنتجت اتجاهات استثمارية عززت الشهية للأخطار، مع انخفاض معدلات الفائدة على الأصول الآمنة، واتجاها لإنشاء صناديق آحادية وأصبح من المعتاد عدم وجود بديل عن الأصول الخطرة، لكن الأزمة الصحية جاءت لتبدأ مرحلة من التقلبات والاختلالات، وبعد الخروج غير المتزامن من الأزمة تسببت الاختلالات في الطلب إلى عودة التضخم ليعيد للأذهان حقبة السبعينيات من القرن الماضي، وهي حبقة ظن كثيرون بأنها أصبحت من التاريخ فقط، وعادت البنوك المركزية بحملة عنيفة لرفع أسعار الفائدة، وعاد الجميع مع هذه الحالة الجديدة لمناطق عدم الراحة، بينما لم يكن أحد كما هي العادة مستعدا لذلك.
لقد تركت مسيرة رفع الفائدة مديري الأصول، وفقا لتقرير "الاقتصادية"، عالقين في معركة التدفقات النقدية الخارجة لمصلحة الودائع النقدية وصناديق سوق المال منخفضة التكلفة والأخطار، حيث بلغ معدل العائد على الودائع المنخفضة الأخطار 6.2 في المائة ومعدلات الفائدة على حسابات الادخار تزيد على 5 في المائة بما تمثل تحديا كبيرا لمديري الصناديق، وأصبحنا أمام نظام جديد تظهر فيه معدلات الفائدة على حسابات الادخار النقدي تشكل تحديا، الاحتفاظ بالسندات يتطلب عوائد أعلى. وللدلالة على هذا التحول يقول أحد مديري الصناديق، كان من المعتاد عدم وجود بديل عن الأصول الخطرة - ولكن هناك بديلا الآن". ويوجد الآن مبلغ قياسي قدره 5.76 تريليون دولار في صناديق سوق المال الأمريكية، التي تضع أموال المشترين في أدوات آمنة مثل السندات الحكومية قصيرة الأجل، وتزايد الضغط على الشركات التي تركز منتجاتها بشكل كبير على المجالات التي فقدت شعبيتها، ويشير الرئيس التنفيذي لمجموعة الادخار والاستثمار إم آند جي المدرجة على مؤشر فاينانشيال تايمز 100، إلى أن فئة الأصول الأحادية التي لم تعد تحظى بالاهتمام، وتجد صعوبة للحصول على التدفقات. ومن بين أولئك الذين عانوا في ظل النظام الجديد، شركة تي رو برايس التي تدير أسهما نشطة بقيمة 690 مليار دولار ومقرها في بالتيمور في ولاية ميريلاند. لقد كانت تعاني تدفقات خارجة كبيرة منذ 2021، وحاولت خفض التكاليف خلال العام الماضي عبر جولتين من تسريح الموظفين.
وانخفضت الأصول التي يديرها صندوق استثمار الرهن العقاري الاسكتلندي التابع لشركة بايلي جيفورد، التي تضرر كثير من حيازتها في التكنولوجيا بسبب ارتفاع أسعار الفائدة، من نحو 18 مليار جنيه استرليني في يونيو 2021 إلى 12 مليار جنيه استرليني وذلك حتى أكتوبر من هذا العام. وأظهرت أحدث أرقامها أن شركة بايلي جيفورد ككل خسرت أكثر من 100 مليار جنيه استرليني من الأصول في 2022.
إذن فهناك موجة جديدة تعم الأسواق، وهي تفرض إعادة هيكلة للصناديق والحاجة إلى تنويع فئة الأصول والعملاء والمنظور الجغرافي، وستصبح عمليات الاندماج بين شركات إدارة الأصول أكثر تواترا مع محاولة الشركات التعامل مع الضغوط المفروضة على رسومها وتظهر الحاجة إلى شركاء استراتيجيين، وهذه الموجة مبشرة لصناديق المعاشات التقاعدية فلقد عاد الدخل الثابت كفئة أصول قابلة للاستثمار وتحقيق عائد متوسط من خانة واحدة. لم يكن هذا متاحا لفترة طويلة ، لكن يبقى السؤال هل هي طويلة الأجل كما حدث في التسعينيات أم هي مرحلة قصيرة؟ الإجابة عن هذا السؤال متعلقة بمعرفة مستويات الفائدة والتضخم الذي ترغب البنوك المركزي في الوصول إليه، وفي هذا الشأن تقول الرئيسة المشاركة لإدارة الثروات الخاصة في جولدمان ساكس: "إلى الحد الذي تحصل فيه على مزيد من الوضوح بشأن الهبوط الاقتصادي الناعم وتحصل على بعض الاستقرار من منظور جيوسياسي، هناك أموال طائلة على الهامش التي ستكون جاهزة للمخاطرة".
خلاصة القول، يجب إدراك أن مرحلة جديدة تتشكل الآن، وكما الحال دوما فهي غير مستدامة ولا تعد منطقة راحة، قد تكون فرصة لالتقاط الأنفاس وفتح فرص جديدة وإعادة تشكيل الأسواق و التكتلات والتحالفات، لكنها لا تلبث أن تفصح عن أخطارها، ولابد أن تكون جاهزا للتقلبات.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي