الأمس واليوم .. مقارنة محتوى
بشار بن برد شاعر ولد في بادية البصره في أواخر القرن الأول الهجري، وعاد وتعلم فيها وتجول بالقرب من المناطق المأهولة، لكنه أقرب إلى الصحراء إذ تذكر المراجع أنه انتقل إلى حران وعاش فيها، وهذا ينطبق على كثير من الشعراء مثل ذي الرمة والحطي، وعلي بن الجهم إذ إن خلفية الثقافة الصحراوية تنطبق عليهم وكذلك الظروف الشخصية، وتظهر على أشعارهم وهذا ليس بغريب، فالإنسان ابن بيئته حيث تكون الآثار في المظهر ومفردات اللغة وطريقة التفكير والمحتوى.
يعرف عن بشار أنه كان أعمى، كما اتهم بالزندقة وهذا ربما يفسر بعض أشعاره التي على أساسها صنف بالزنديق إذ يقول: إبليس خير من أبيكم آدم فتنبهوا يا معشر الفجار إبليس من نار وآدم طينة. والأرض لا تسمو سمو النار.
أما الحطيئة فتنقل حتى انتهى به المطاف في المنطقة المعروفة بالوسيع على طرف صحراء الدهناء واشتهر بشعر الهجاء حتى هجا أمه وهجا نفسه ويفسر اتخاذه شعر الهجاء بأنه نتيجة شعوره بالحرمان فلا يعرف أباه ولا أمه ورفضته كل القبائل وفيما يلي نماذج من شعره الهجائي: تنحي فاقعدي عني بعيدا ... أراح الله منك العالمينا
فنعم الشيخ أنت لدى المخازي ... وبئس الشيخ أنت لدى المعالي
أرى وجها شوه الله خلقه ... فقبح من وجه وقبح حامله الأبيات السابقة نماذج من هجائه لأمه وأبيه ونفسه على الترتيب، والشاعر علي بن الجهم قال شعر مديح في الخليفة المتوكل عندما قدم من الصحراء إلى بغداد حيث ورد فيه: أنت كالكلب في حفاظك للود وكالتيس في قراع الخطوب
أنت كالدلو لا عدمناك دلوا ... من كبار الدلاء عظيم الذنوب
هذه نماذج لثلاثة شعراء عاشوا ظروفا متشابهة من حيث البيئة وقسوتها وما عانوه من شظف العيش والحرمان في أشياء كثيرة أسهمت في تشكيل شخصياتهم وطريقة تفكيرهم ونوع المفردات التي تظهر في شعرهم الذي وصلنا بعد قرون في صيغته الأساسية لنتعرف من خلاله على سمات، وخصائص الشعراء كأفراد وخصائص المجتمعات والبيئات التي عاشوا فيها ومع إدراكنا لمحدودية وسائل التواصل، وانخفاض مستوى التعليم عند البعض في تلك القرون إلا أن ذاكرة الإنسان العربي حفظت هذا التراث الشعري وتناقلته الأجيال شفاهة ثم كتابة فيما بعد إلى هذه المرحلة من تاريخ البشرية الذي يشهد اختلافا جذريا عن تلك التي عاشها هؤلاء الشعراء وغيرهم، يلاحظ على النصوص السابقة أن نصي بشار والحطيئة فيهما بذاءة قول مقصود، أما نص علي بن الجهم ففيه جلافة قول نتجت من العيش في البيئة الصحراوية.
في مقارنة بين محتوى تلك الحقبة التاريخية، والحقبة الحالية التي طغت فيها وسائل التواصل الاجتماعي ذات السرعات المنتاهية والانتشار الواسع جغرافيا لمن يجيد لغة المحتوى ومن لا يجيدها، والمتاحة للجميع بمختلف مستويات العلم والثقافة والأخلاق تكون المقارنة في الظروف ليست ذات جدوى لما يوجد من اختلافات كثيرة وقوية إلا أن إمكانية المقارنةبين محتوى الحقبتين واردة، فمقاطع لمحتوى ينشرها أصحابها على وسائل التواصل الاجتماعي يتقزز العقل السوي من تنكر أصحابها من الأقارب والأهل وقيم المجتمع وثقافته العامة والخاصة حتى ليعجب المرء من هؤلاء الأفراد كيف تنكروا وعادوا فكر وقيم وثقافة مجتمع عاشوا في حضنه وتربوا في كنفه ليحدث لهم هذا الانقلاب الحاد بل كيف يقبل المرء إظهار نفسه بهذه الصورة القميئة النتنة ومثل هؤلاء يلتقون بشار بن برد والحطيئة من حيث البذاءة والسقوط؟ المشكلة في الوقت الراهن أدهى وأمر فالعبث الفكري وسوء السلوك إن لم يكن هبوطه لما بعد القاع من قبل بعض من يظهرون على وسائل التواصل الاجتماعي سريع الانتشار، وسهل التلقف من كل الشرائح الاجتماعية وشديد التاثير في الأوساط محدودة الثقافة والمعرفه ولذا يرسم سيئو المحتوى صورة مقززة عن أنفسهم وربما عن ذويهم وبيئتهم عامة إذا علمنا أن هؤلاء يظهرون بصورهم وأسمائهم وأصواتهم.