الحوكمة السائلة وتطبيق مفاهيمها

مفهوم الحوكمة معقد إذا حاولت تحديده بشكل قاطع، هناك تعريفات كثيرة له، وكلها مناسبة. عرفه معهد الحوكمة المعتمدة في المملكة المتحدة وأيرلندا بأنه "نظام" (system) يوفر إطارا لإدارة المنظمات، فهو يحدد من يمكنه اتخاذ القرارات، ومن لديه السلطة للتصرف نيابة عن المنظمة ومن هو المسؤول عن كيفية تصرف المنظمة وأفرادها وأدائهم، ثم يعود المعهد للحديث عن دور الحوكمة في أنها تمكن فريق الإدارة والمجلس من إدارة المنظمات بشكل قانوني وأخلاقي ومستدام وناجح، لمصلحة أصحاب المصلحة، بما في ذلك المساهمون والموظفون والعملاء والزبائن، ولمصلحة المجتمع الأوسع.
الحوكمة عند البنك وصندوق النقد الدوليين مختلفة نوعا ما فيتم تعريف الحوكمة على أنها الطريقة التي يتم بها ممارسة السلطة في إدارة الموارد الاقتصادية والاجتماعية للدولة من أجل التنمية، لقد دارت مؤسسة البنك الدولي حول التعريف كثيرا لتقول: إن تجربة البنك الدولي في البرامج والمشروعات التي يساعد على تمويلها قد تكون سليمة من الناحية الفنية، لكنها تفشل في تحقيق النتائج المتوقعة لأسباب تتصل بنوعية العمل الحكومي، فقد لا تنجح جهود تطوير الإنتاج وتشجيع النمو إذا كانت أنظمة المحاسبة لدرجة غير قادرة على تنفيذ الميزانية أو مراقبتها، أو إذا كانت أنظمة المشتريات رديئة تشجع الفساد وتشوه أولويات الاستثمار العام. في مقابل ذلك عرفت هيئة السوق المالية السعودية مفهوم الحوكمة في اللائحة على أنها قواعد لقيادة الشركة وتوجيهها تشتمل على آليات لتنظيم العلاقات المختلفة بين مجلس الإدارة والمديرين التنفيذيين والمساهمين وأصحاب المصالح، وإجراءات خاصة لتسهيل عملية اتخاذ القرارات وإضفاء طابع الشفافية والمصداقية عليها بغرض حماية حقوق المساهمين وأصحاب المصالح وتحقيق العدالة والتنافسية والشفافية في السوق وبيئة الأعمال. وهكذا فالحوكمة لها أكثر من وجه فهي أحيانا إطار، وأحيانا قواعد وأحيانا طريقة، وأحيانا لها هدف، (تشجيع النمو ومكافحة الفساد) وأحيانا (تحقيق هدف أخلاقي وتحقيق العمل لمصلحة أصحاب المصلحة) وأحيانا (هدفها تنظيم العمل).
لقد تتبعت تعريفات كثيرة غير هذه التي أشرت إليها في المقال، وكلها تدور حول مفاهيم مثل هذه، ولذلك قد تشعر أحيانا وأنت تقرأ إطار الحوكمة الذي نشره صندوق النقد الدولي، بأنه إطار لمكافحة الفساد، وعلى أساس أن ذلك يحقق النمو ويشجع الاستثمارات، ولذلك يتفق البنك وصندوق النقد الدوليان في تعريف الفساد بأنه "إساءة استخدام المنصب العام لتحقيق مكاسب خاصة"، لكن هذه التعريف سائل جدا، فهناك أفعال يساء فيها استخدام المنصب لكنها ليست فسادا، لذلك تم تقييد الأفعال التي يُعترف بها عالميا على أنها "فاسدة" إذا انطوت على جريمة وحددت اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد مجموعة أساسية من الأفعال التي يتعين على الدول تجريمها، وجميعها تدور حول رشوة الموظف العام، وكذلك اختلاس أو إساءة استخدام أو تحويل الأموال من قبل موظف عام وغسل عائدات الجريمة.
ورغم المناقشة المستفيضة للفساد في وثائق البنك وصندوق النقد الدوليين تعود لتؤكد أنه حتى لو لم تكن الأفعال الناشئة عن نقاط ضعف الحوكمة إجرامية بطبيعتها، فقد يكون لها مع ذلك تأثير اقتصادي ضار كبير.
المشكلة الأساسية أن كل جهود الباحثين للربط بين الحوكمة والفساد والنتائج الاقتصادية سواء للدول أو الشركات أفرزت ارتباطات ضعيفة، والحوكمة ليست ذات أثر حاسم في النمو، والسبب مرة أخرى هو أن العوامل التي يراد منها قياس الحوكمة قد لا تكون هي الحوكمة فعلا.
للأسف، هناك جهود محدودة للغاية لفهم هذا الكائن الإداري القانوني الرقابي الثقافي الأخلاقي الذي نسميه جدلا بالحوكمة. إنه كائن متعدد الأطراف كثير الرؤوس، هلامي بشكل خطير، ومع ذلك نكثر الحديث عنه كأننا ندرك كينونته تماما، وهو عندي مثل المادة السائلة تماما، يتشكل وفقا لما يراد له أن يكون، فإذا كان الهدف ممن صنعه (سواء في شكل إطار أو شكل قواعد) هو مكافحة الفساد، فهو سيعمل على توظيف مفاهيم الشفافية والمساءلة وفقا لما يحقق الغرض من مكافحة الفساد، وإذا كان الهدف تنظيميا بحتا لترتيب العلاقات الداخلية واللجان مع المجالس فإن الحوكمة تأخد شكل الهيكل التنظيمي وتصبح السياسات واللوائح هي بيت القصيد، وإذا كان الهدف من الحوكمة تحقيق مفهوم أصحاب المصلحة فإن القواعد التي تحقق الاستقلال تصبح هي القوة الأكثر تأثيرا في الحوكمة، وهكذا يمكنك التعامل مع الحوكمة كمفهوم سائل هلامي.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي