البنية النقدية والمصرفية والأزمات المالية والاقتصادية

شهد العالم وعلى رأسه أمريكا في العام الماضي أزمة مصرفية، أذكر منها انهيار وتبعات انهيار بنوك مشهورة، كبنك سيليكون فالي. ويشهد العالم تضخما في الأسعار، وارتفاعا في معدلات الفائدة، وضعف نمو اقتصادي، مصحوبا بتوسع في الديون العامة. والتحذير قائم من اشتداد هذه الأوضاع، وآثارها السلبية في مختلف جوانب الحياة. وتبعا ينادي البعض بمزيد تشديد في البنية النقدية والمصرفية لتهدئة الأوضاع.
فهم طبيعة النظام النقدي والمصرفي والطريقة التي يعمل بها تساعد على فهم تلك الأزمات نشوءا وتطورا وعلاجا. وحدوث الأزمات ليس بغريب تحت حب الإنسان للمال حبا جما. فمثلا الرغبة في ممارسة الأعمال التجارية تنبع من الأمل القوي بأن التحرك اليوم يؤدي إلى مزيد من الأموال غدا. 
ما علاقة ما سبق بالنظام النقدي؟ التأسيس والتوسع كلها تحتاج إلى تمويل، ويأتي عادة من طريقين: استعمال الأرباح السابقة أو الحصول على تمويل.
التمويل يمكن أن يأتي عن طريق إصدار أسهم جديدة أو ما يسمى "تمويل بالمساهمة أو المشاركة"، ويمكن أن يأتي عبر شكل من أشكال الاستدانة، أو ما يسمى "تمويل بالدين"، سواء من المؤسسات المالية أو الأفراد (سندات). وهنا يظهر فرق جوهري.  التمويل بالدين له أولوية السداد، والتمويل بالمساهمة يعتمد على الأرباح في المستقبل.
الخطوة التالية معرفة آلية توفير التمويل للأفراد والمؤسسات والحكومة.  بدلا من التعامل الشخصي، تعامل بين شخص وشخص، لعمل صفات مالية، تطورت مؤسسات لتجميع مبالغ صغيرة من المال من كثير من الناس في وعاء مشترك.  ظهرت البنوك لتقوم بوظيفة الوساطة لجمع المال من مجموعة وجعلها متاحة لمجموعة أخرى من الناس. وتحقق البنوك أرباحا من الفرق بين ما تدفعه للمودعين وما تتقاضاه على تمويلها. 
ما كان ممكنا للبنوك أن تنجح في الوساطة لولا أن المودعين لا يطلبون أموالهم في نفس الوقت. وتحتفظ البنوك بنسبة صغيرة نسبيا من النقود بصورة سائلة لتلبية المسحوبات النقدية اليومية، ومواجهة طلبات العملاء.  
وبصفتهم وسطاء على أموال غيرهم، هناك عديد من الطرق لكسر النظام. ولأن عاملي الوقت والمخاطرة جزءان أساسيان في عمليات البنوك، فإن تمويلات البنوك هي في الحقيقة مطالبات على تدفق نقدي مستقبلي. بالطبع، لا تتوقع البنوك أن تسدد كل قروضها وبالكامل، ولكن التخلف عن السداد أو التعثر فيه يزداد في حالات الركود غير المتوقعة. 
وتحسبا لهذه الاحتمالات، تبقي البنوك احتياطيا، يتكون من حصة ثابتة من المال المودع ونسبة من أموال أصحاب البنك. كما تتخذ السلطات النقدية تدابير وتنظيمات احترازية.  كما يفترض أن تقوم الممارسات المصرفية على الحكمة، لأن أول مال تطبق عليه الخسارة هو رأس المال (مال ملاك البنك).
الجري خلف البنك يحدث عندما يشعر المودعون أن البنك على وشك الإفلاس. وعندما يندفع الناس إلى البنك، فإنه لا يقدر على توفير النقدية، ويجب أن يغلق بابه. وهذا ما حدث في الدول الغربية مطلع عقد الثلاثينيات من القرن الميلادي الماضي، وحدث في الأرجنتين ودول أخرى 2001.
وزيادة في إيضاح ما سبق، هناك 3 أركان في النظام المالي العالمي القائم: النقود الاسمية fiat money (أي التي اكتسبت ثقة الناس بقوة القانون، ولكن لا غطاء ولا قيمة لها لذاتها كالنقود الورقية في الوقت الحاضر)، ونسبة الاحتياطي المصرفي والبنوك المركزية. 
وبصورة أعم تعمل الأنظمة المصرفية في عامة الدول وفق أسس أهمها أن البنوك تقرض أكثر مما تأخذ، ومن ثم يكون حجم الودائع أكبر بكثير من حجم النقود الموجودة في البنوك (النظام المصرفي) المتاح دفعها للمودعين. وسياسة التمويل (الإقراض) في البنوك تقوم على أساس توظيف ما يسمى "نسبة الاحتياطي".  ويعني ذلك عمليا أن بإمكان البنوك صنع عدة ريالات من كل ريال يودع فيها.  
ما سبق ينتج أخطارا في النظام المصرفي. ولذا من مهام البنوك المركزية أن تكون الملاذ أو المقرض الأخير. وتتحكم البنوك المركزية في عرض النقود، عبر التحكم في الاحتياطي. وخلاف ذلك، يتيح النظام النقدي والمصرفي لكثير من الدول صنع النقود بتكلفة منخفضة جدا، بما يشبه حكاية تحويل النحاس إلى ذهب في القديم. أمريكا مثال قوي، بالنظر إلى كون الدولار العملة العالمية الأولى.            
 

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي