من إجماع واشنطن إلى إعلان برلين

تأتي التحولات النمطية التي تطرأ على الفكر الاقتصادي السائد مصحوبة عادة بأزمات تطالب بحلول جديدة، كما حدث بعد الركود التضخمي -انخفاض النمو وارتفاع التضخم- الذي أمسك بتلابيب الاقتصادات المتقدمة في سبعينات القرن العشرين. وربما يحدث هذا مرة أخرى الآن، حيث تواجه الديمقراطيات الليبرالية موجة من انعدام الثقة الشعبية في قدرتها على خدمة مواطنيها ومعالجة الأزمات المتعددة -التي تتراوح من تغير المناخ إلى أشكال التفاوت التي لا تطاق والصراعات العالمية الكبرى- التي تهدد مستقبلنا.
الآن بات بوسعنا أن نرى العواقب في الولايات المتحدة، حيث يحظى الرئيس السابق دونالد ترمب بفرصة جيدة للفوز بالانتخابات الرئاسية في نوفمبر. على نحو مماثل، قد تتولى حكومة يمينية متطرفة السلطة في فرنسا بعد الانتخابات المبكرة المقبلة. لمنع السياسات الشعبوية الخطرة التي تستغل غضب الناخبين، وتجنب الضرر الجسيم الذي قد يلحق بالبشرية والكوكب، يتعين علينا أن نسارع إلى معالجة الأسباب الجذرية الكامنة وراء سُخط الناس.
مع وضع هذه الحتمية في الحسبان، اجتمع عدد كبير من كبار خبراء الاقتصاد والممارسين في برلين في نهاية مايو لحضور قمة نظمها منتدى الاقتصاد الجديد. أسفرت قمة "استعادة ثقة الشعب" إلى شيء يشبه فهما جديدا قد يحل محل "إجماع واشنطن" القائم على ليبرالية السوق، الذي أكد لمدة 4 عقود من الزمن على أولوية التجارة الحرة وتدفقات رأس المال، وإلغاء القيود التنظيمية، والخصخصة، وغير ذلك من الشعارات المؤيدة للسوق.
منذ ذلك الحين، جرى التوقيع على إعلان برلين الذي نُشر في نهاية الاجتماع من قبل عشرات من العلماء البارزين،
كان إجماع واشنطن متقلبا لبعض الوقت، حيث واجه تحديات بسبب وفرة من الأبحاث التي وثقت اتساع فجوة التفاوت في الدخل والثروة وأسبابها، فضلا عن إعادة تقييم الدور الذي تؤديه السياسة الصناعية وإستراتيجيات مكافحة تغير المناخ. عملت الأزمات الأخيرة، فضلا عن خطر خسارة المعركة من أجل الديمقراطية الليبرالية ذاتها، على تحفيز الجهود الرامية إلى ترجمة كل هذا البحث إلى إطار مشترك جديد من السياسات لاستعادة ثقة المواطنين.
يسلط إعلان برلين الضوء على أدلة واسعة الانتشار تؤكد أن انعدام ثقة الناس مدفوع إلى حد كبير بالتجربة المشتركة المتمثلة في فقدان الناس السيطرة سواء بصورة حقيقية أو متوهمة على سبل معايشهم ومسار التغيرات المجتمعية. نشأ هذا الشعور بالعجز عن الصدمات الناجمة عن العولمة والتحولات التكنولوجية، التي تضخمت بفعل تغير المناخ، والذكاء الاصطناعي، وصدمة التضخم الأخيرة، والتقشف.
الواقع أن الدعم قوي بذات القدر لتصميم شكل أكثر صحة من أشكال العولمة، وتنسيق السياسات، والسماح بالسيطرة الوطنية على المصالح الإستراتيجية الحاسمة. تستند هذه الأولويات إلى اتفاق واسع النطاق على ضرورة تضييق فجوات التفاوت في الدخل والثروة.
لا يدعي الموقعون على إعلان برلين أنهم يمتلكون كل الإجابات؛ العكس هو الصحيح. بل إن الغرض من الإعلان يتلخص في تقديم بيان بالمبادئ يختلف بوضوح عن العقيدة التقليدية السابقة وإنشاء تفويض لصقل المفاهيم السياسية للممارسة.
إننا في احتياج إلى جهد متضافر لإعادة المواطنين وحكوماتهم إلى مقعد القيادة وتعزيز رفاهية أكثرية الناس من أجل استعادة الثقة في قدرة مجتمعاتنا على التغلب على الأزمات وتأمين مستقبل أفضل. إن استعادة ثقة الناس لا تتطلب أكثر -ولا أقل- من أجندة من أجل الناس.

خاص بت " الاقتصادية"
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2024.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي