أزمة تراس وشيطنة البنوك المركزية


"Trussing" فِعل إنجليزي قديم له دلالات شَـتَّـى. فقد يعني وضع عوارض لدعم مبنى أو جسر، أو ربط ديك رومي قبل شوائه. ولكن منذ ولاية ليز تراس (Liz Truss) الوجيزة الكارثية في منصب رئيس وزراء المملكة المتحدة في خريف 2022، أصبح يشير أيضا إلى حكومة مُـنـهَـكة ماليا وتطلق وعودا غير واقعية إلى حد بعيد والتي تنتهي إلى دموع وأحزان. لم يعد فِـعل الدعم (Trussing) يعني دائما تثبيت الاستقرار؛ ففي بعض الأحيان، يعني العكس.
يشهد عامنا هذا عددا كبيرا من الانتخابات المصيرية، وجميعها تخيم عليها مخاوف الانتهاء إلى المصير الذي انتهت إليه حكومة ليز تراس. انهارت حكومة تراس بعد أن تسببت التخفيضات الضريبية غير الممولة التي أقرتها بقيمة 45 مليار جنيه إسترليني (57 مليار دولار أميركي) في إحداث حالة من الذعر المالي أجبرت بنك إنجلترا على التدخل لشراء أوراق مالية حكومية. وقد أوضح بنك إنجلترا أن دعمه سيستمر حتى الرابع عشر من أكتوبر. في ذلك اليوم، اضطر وزير الخزانة كواسي كوارتنج إلى الاستقالة، تاركا تراس لتبحث عن شخص يمكنه العمل مع الأسواق وليس ضدها. لكن حكومتها انتهت.
يتجلى الخوف من الانتهاء إلى مصير أشبه بمصير حكومة تراس في أوضح صوره في فرنسا، حيث صدم الرئيس إيمانويل ماكرون الجميع بحل الجمعية الوطنية في أعقاب أداء حزبه الكارثي في انتخابات البرلمان الأوروبي. ويبدو أنه يريد أن يثبت عدم وجود بديل لسياساته. ولكن إذا تسنى لحزب التجمع الوطني اليميني المتطرف تشكيل الحكومة، وهو ما يبدو في حكم الممكن على نحو متزايد بعد فوزه بنحو 34 % من الأصوات في الجولة الأولى، وتنفيذ وعوده السابقة بزيادة الإنفاق بدرجة كبيرة، فسيُـفضي هذا على الفور إلى إشعال شرارة انهيار مالي. كان مجرد الإعلان عن انتخابات مبكرة كافيا للتسبب في ارتفاع حاد في عائدات السندات، الذي أدى إلى اتساع الفجوة بين أسعار الأوراق المالية الفرنسية والألمانية.
تواجه فرنسا اليوم معضلة مزدوجة. ذلك أن كلا من الائتلافين المناهضين لماكرون من اليسار واليمين سيكون راغبا في متابعة النشاط المالي -بمعنى زيادة الإنفاق، وفي حالة الجبهة الشعبية الجديدة، فرض زيادات ضريبية كبيرة- وهذا من شأنه أن يؤدي على الفور إلى إشعال شرارة بيع السندات بثمن بخس. ومع ذلك، سيكون كل منهما معتمدا بشكل كبير على البنك المركزي الأوروبي.
البنك المركزي الأوروبي أيضا سيواجه مُـعضِـلة. فإما أن يبدأ في شراء أصول ضخمة والمجازفة بإيجاد سابقة خطرة، أو أن يرفض ويخاطر بوصمه بأنه عميل للقمع الألماني. وعلى هذا فإن المصير الذي انتهت إليه حكومة تراس يسلط الضوء على الطرق التي تحد بها البنوك المركزية من عمل الحكومة وتفرض شروطا متوافقة مع الاستمرار في الوصول إلى الأسواق الدولية. وليس من قبيل المصادفة أن يميل البديلان الفرنسيان الحاليان بشدة إلى النعرة القومية.
تنعكس غرابة الموقف الحالي في الفارق الواضح بين حالة الذعر والعصبية في الحملة الانتخابية الفرنسية والهدوء شِـبه المخيف الذي يميز الانتخابات البريطانية التي تنعقد في ذات الوقت تقريبا. يخوض حزب العمال في المملكة المتحدة الانتخابات وهو يضمن تحقيق فوز حاسم لأنه استوعب تماما الدروس المستفادة من الارتباكات السابقة. الواقع أن وعوده السياسية تستند إلى أساس من المسؤولية المالية والمصداقية.
على الرغم من الدروس التاريخية، سوف يستمر الساسة من أمثال ليز تراس في شيطنة البنوك المركزية. وقد يحدث هذا في فرنسا هذا العام، ومن المرجح أن يحدث في الولايات المتحدة إذا فاز دونالد ترمب بالانتخابات الرئاسية في نوفمبر الثاني من هذا العام. كثيرا ما تؤدي القيود المفروضة على عمل الحكومة إلى دفع المواطنين الغاضبين إلى المطالبة بخيارات أكثر تطرفا وزعزعة للاستقرار، وقد يُـفـضي هذا إلى انغلاق البلدان على نفسها والتخلي عن الالتزامات الدولية، وليذهب الاستقرار المالي إلى الجحيم.
خاص بـ " الاقتصادية"
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2024.
 

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي