صندوق النقد .. الحوكمة والشرعية
لو لم يكن صندوق النقد الدولي موجودا بالفعل، لكان لزاما علينا أن نخترعه. فبعد وقوع كارثتين، لا تحدثان إلا مرة واحدة كل قرن، لكنهما وقعتا في تتابع سريع - الجائحة والأزمة المالية العالمية - اقترضت البلدان مبالغ ضخمة لمساعدة شعوبها ومؤسساتها على البقاء. وهناك مزيد من الاضطرابات التي تهدد الأوضاع نتيجة ارتفاع درجة حرارة الكوكب وظهور مسببات أمراض جديدة. وفي الوقت نفسه، تعمل الحواجز المتزايدة أمام التجارة والاستثمار على إعاقة الآليات المعتادة لسد فجوات الفرص بين البلدان الصناعية التي تعاني الشيخوخة السكانية والاقتصادات النامية الشابة. وقد دفع هذا الانفصال المتزايد ملايين من المهاجرين إلى مواجهة أخطار الغابات الكثيفة والبحار المفتوحة لإيجاد موطئ لأقدامهم في العالم المتقدم، ما أدى بدوره إلى زيادة الدعوات المناهضة للتكامل العالمي.
وللتصدي بشكل أفضل لهذه التحديات، نحتاج إلى صندوق النقد الدولي الذي يوجه البلدان نحو السياسات التي تدعم التبادل الدولي العادل للسلع والخدمات ورأس المال، ويكمل دور منظمة التجارة العالمية من خلال التأكيد على أضرار عدم القيام بذلك. ويتعين على الصندوق أيضا أن يقدم صوتا مستقلا فيما يتصل بالسياسات الوطنية -خاصة تلك التي تهدد استقرار الاقتصاد الكلي للبلاد- وأن يعمل كمقرض الملاذ الأخير للبلدان التي تفقد ثقة الأسواق. ولكن من المؤسف أنه في الوقت الذي لدينا فيه صندوق النقد الدولي، فإن هيكله المتقادم يجعله في وضع لا يسمح له بالاضطلاع بكل هذه الوظائف.
إن صندوق النقد الدولي بحاجة إلى الشرعية لتلبية احتياجات أعضائه. وقد تأسس الصندوق عندما كانت الولايات المتحدة القوة العظمى الوحيدة، التي تتمتع بالقوة الاقتصادية التي سمحت لها بالبقاء إلى حد كبير فوق النزاع ومكنتها من أن تكون جهة جديرة بالثقة، ومحايدة في معظم الأحيان، منفذة للقواعد التي تحكم سعر الصرف.
ولم تستاء البلدان الأخرى من سلطتها في استخدام حق الفيتو والاعتراض على القرارات الرئيسة أو سيطرتها، جنبا إلى جنب مع حلفائها كندا وأوروبا الغربية، على التعيينات الإدارية والقرارات التنفيذية. وقد ظل هذا التحالف الغربي بلا منازع إلى حد كبير حتى وقت قريب؛ ففي أوج ازدهاره خلال الحرب الباردة، كان الاتحاد السوفييتي (والبلدان التابعة له)، على الرغم من كونه قوة عسكرية عظمى، لا يزال قوة اقتصادية صغيرة وخارج النظام التجاري العالمي إلى حد كبير. وفي ذروتها في أواخر ثمانينيات القرن الماضي، كانت اليابان، على الرغم من كونها قوة اقتصادية كبيرة، تعتمد بشكل كبير على الولايات المتحدة وبالتالي لم تتحد هيمنتها – وهي في الواقع تشكل فعليا جزءا من التحالف الغربي اليوم. ولم تواجه السيطرة الغربية تحديا إلا أخيرا بسبب صعود الصين، حيث أصبحت قوة عظمى اقتصادية وعسكرية.
وبالطبع، ظلت الشكاوى المتعلقة بالتمثيل الناقص للبلدان من خارج التحالف الغربي تتزايد منذ فترة. وتمثل حصص أعضاء صندوق النقد الدولي حقوقها التصويتية وقيمة اشتراكاتهم الرأسمالية في الصندوق. كما أن الحد الأقصى الذي يمكن لأي بلد أن يقترضه في ظل ظروف مختلفة من صندوق النقد الدولي يتناسب أيضا مع حصته. وتتجاوز حصة اليابان البالغة 6.47 % حصة الصين البالغة 6.4 %، على الرغم من أن اقتصاد الصين أصبح الآن أكبر بـ4 أضعاف. وبالمثل، فإن حصة الهند أقل من حصة المملكة المتحدة وفرنسا على الرغم من أن اقتصادها تجاوز كليهما من حيث الحجم. ومن الصعب أن نرى أي أساس منطقي لهذا النقص في التمثيل اليوم، بخلاف رغبة التحالف الغربي في التمسك بالسلطة.
إن صندوق النقد بحاجة إلى الشرعية المتوخاة والحوكمة الرشيدة، ليس فقط من أجل تسهيل التفاوض بشأن القواعد وفرض هذه القواعد بحيادية، بل ليتمكن أيضا من اتخاذ القرار بشأن كيفية توزيع موارده على النحو الصحيح. وهناك أسباب تشير إلى أن التحالف الغربي لم يعد ملائما للوفاء بالغرض.